محمد محمد مستجاب يتحدث عن والده المبدع الاستثنائي الرائع.

حكاية خناقته مع أمل دنقل.. ورفضه تحريــــــــض رجاء النقاش له لتشويه مصطفى محمود
حين فاز محفوظ بالجائزة العالمية قال مستجاب.. الموظف فاز بنوبل
قال «السد العالى أبويا» ومات قبل أن يحقق حلمه بكتابة رواية عن السد
بعض أقارب مستجاب ناصبوه العداء بعد صدور روايته الأهم «من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ».. ووالدته قالت له.. اكتب عن «أهل أبوك»
حين قال لى أبى.. روح غـــير اسمك
يحيى حقى ويوسف إدريس كانا الأقرب لقلبه
ديروط الشريف.. قريته التى أحبها وكتب عنها ورأى فيها العجب
يمثل محمد مستجاب حالة خاصة فى الحياة الأدبية والثقافية المصرية والعربية، فالرجل المولود بديروط الشريف التابعة لأسيوط قبل حوالى سبعة وثمانين عاما، والذى رحل عن عالمنا منذ عشرين عاما له حضوره الاستثنائى وأسلوبه الفريد وطريقته الخاصة العصية على التقليد في فن القص والسرد.. عرفه الوسط الأدبى منذ أن نشر قصته الوصية الحادية عشرة عام 1969، وذاعت شهرته وسطع نجمه الأدبى عندما أصدر روايته من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ التى أحدثت دويا هائلا وفازت بجائزة الدولة التشجيعية عام 1984، وهكذا حفر مستجاب لنفسه مكانا ومكانة بقلمه وموهبته وإبداعه.. عن محمد مستجاب المبدع والإنسان شرفت بالحوار مع ابنه ووريثه فى عالم الأدب ودنيا الثقافة محمد محمد مستجاب..
فى البداية قلت لمستجاب الابن ديروط الشريف، بلد محمد مستجاب، الذى استوحى منها مجموعته ديروط الشريف، ما الذى حفرته هذه القرية الجنوبية فى محمد مستجاب على المستوى الإنسانى والإبداعى، ثم ماذا عن نشأته وعائلته هناك؟
فأجاب: ديروط الشريف – القبلة – التى كان يحج إليها مستجاب كلما ضاقت به الحياة، هى أرض الميلاد والمنشأ والحياة وأيام البكورة، وهى قرية مثل قرى كثيرة فى صعيد مصر، لكنها بالنسبة لمستجاب ليست كأى قرية، ففيها شاهد ما لم يشاهده فى أى مكان، تغيرات إنسانية، مرض الكوليرا 1948، إغلاق المدراس فى شتاء 1952 بعد حريق القاهرة، مشاركته فى التدريبات الشعبية أثناء العدوان الثلاثى، حتى إنه كان يكتب – لأن خطه جميل – عبارات على جدران البيوت بالطلاء “هانحارب”، وكانت موجوده حتى سنوات قريبة، كما أنه مبكرا جدًا شاهد – بديروط الشريف – كيف يتم قتل شخص وترى الخوف والثأر فى نفس اللحظة، هى أشياء لن ترها فى الريف إذا كان الريف هو الخضرة والماء والزرع فقط، مستجاب شاهد صعيدا آخر خاصا به، هل تصدق أن طفلا فى السابعة من عمره يرى جثة محترقة وسط حقل برسيم فى ضباب الشتاء، سيظل هذا المشهد محفورا فى ذاكرته، وبالتالى فلم يرد مستجاب أن يقدم الصعيد السينمائى المستهلك الذى طرحته القصة المصرية حينها عند محمود البدوى أو آخرين، أراد أن يقدم صعيدا حقيقيا نازفاً بالدماء وقد ساعدته موهبته فى طرح هذا بالإضافة إلى أرض قريته ديروط الشريف والتى كان يراها العالم كله، وهى قرية لا تتكرر فى أى مكان، وقد أحبها كما لم يحبها أحد ولعنها كما لم يلعنها احد، فهى تخص مستجاب فقط وليس أهلها، هو صوتها وضميرها ومؤرخها ورؤيتها المستقبلية أيضا.
وإذا أضفت ضلعين أساسيين فى تكوين مستجاب وعائلته أنه كان طفلا ذكيا نجيبا مع فقر شديد يحيط به، فقر ليس فقر العوز أو الجوع، لكنه فقر فى كل شىء، لقد قرأت له جملة فى أحد الحوارات أرعبتنى، يقول ساخرًا: كنا نجاهد كى نصبح فقراء!! لهذه الدرجة كانت الحياة التى عاشها، إذا لن تستطيع أن تتخيل أن أسفل هذا الفقر يمكن أن تنفجر موهبة عظيمة قوية لمستجاب إلا إذا كان يوجد فى منابت النشأة موهبة وإصرار على أن يكون شيئا مهما فى الحياة، بالطبع توجد أشياء لن نستطيع أن نغفلها.. الأب الحافظ للسيرة الهلالية.. الخال – وهو ناظر مدرسة – والذى كان فى بيته مكتبة ويحتفظ فى غرفته بمجلة الهلال والمختار والأغانى للأصفهانى وألف ليلة وليلة، بالإضافة الى بعض المدرسين فى المدرسة والذى أحبهم مستجاب كمدرس الموسيقى أو اللغة العربية، هذا من جهة، فى الجهة الأخرى شقاوة لطفل صاخب مدلل – رغم الفقر الشديد- فهو الذكر على خمس إناث، هذا أعطى لمستجاب زخما لحياته، قلما نجده فى حياة أى كاتب آخر. فهو ليس متعلما تعليما إلزاميا وليس والده موظفا مثلا أو يعيش حياة يفتخر بها، كلا مستجاب جاء من أرض وطين مغايرة وحقيقية شاهد فيها كل شىء: القتل والحب والصراع وتحرك المصالح وتغيرات الساسة وأشياء أخرى.
آل مستجاب
أبدع محمد مستجاب مجموعته قيام وانهيار آل مستجاب، ثم إنه مستجاب الرابع، يبدو وكأن هناك احتفاء دائم من مستجاب بلقبه وبجذوره، حدثنا عن هذا الأمر؟
اسم مستجاب هو اسم فارق فى الحياة، أى عندما تسمعه فى أى مكان سواء كان فى مدرسة أو قسم شرطة أو حتى نداء محصل النور، ستشعر بأنه مميز ومختلف، لكن مستجاب لم ينتبه للاسم – كى يستخدمه – فى أعماله – إلا بعد صدور روايته الفذة – من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ، وقد أحدثت تلك الرواية صدمة كبرى فى عالم الأدب كما حدثت صدمة لدى عائلته، فقد نظر البعض أنه قام بفضح العائلة، وناصبه بعض الأقارب العداء لأنه ذكر اسمه أو فعلاً لهم فى الرواية، ونعمان عبد الحافظ قريبه من ناحية أمه، وبالتالى تعاركت معه الأم معركة شديدة، فقالت له: روح اكتب عن أهل أبوك! هذه الجملة كانت المنعطف الخطير فى حياته، فلم يكن مستجاب منتبها إلى ذلك، واستغلها مستجاب بداية من قصص قصيرة تحمل مستجاب الخامس والسابع والثالث، والتى ضمتها مجموعته “قيام وانهيار آل مستجاب، ثم مستجاب الفاضل وأنه الرابع من آل مستجاب، وبالتالى فقد خلق مستجاب أرضية عظيمة لشيئين: اسمه وقريته، فبمجرد سماع أو قراءة مستجاب، او اسم ديروط الشريف، هذا فى حد ذاته شيء لم يحدث فى عالم الأدب، أن تخلق شيئا من اللا شيء وتصر عليه حتى يصير لافتة لشىء عظيم اسمه إبداع محمد مستجاب الذى لا يتكرر.
يتماهى مستجاب دائما مع البيئة الصعيدية والأرض الصعيدية، وفى أعماله أشخاص وأصوات صعيدية، هل ترجع الأمر لنشأته بالصعيد أم أنه كان يتوسل بهذا الإبداع لمقاومة مأزق الحياة فى القاهرة؟
كلمة يتوسل هذه كلمة غير مناسبة، مستجاب كان قارئاً نهما منذ طفولته، وقرأ كتابات عظيمة مبكرا، وعندما جاء للقاهرة عام 1957م، بحثا عن عمل بعد أن توقف تعليمه، شعر بعداء كبير من العاصمة، فلم يألفها، لم يحبها، مع أنه زار عالمها السفلى من مقاه وبيوت وحفلات ومزارات تاريخية، ووجد حينها أن معظم الأدب يكتب فيها ويصدر منها لأنها العاصمة، وهنا بدأ مستجاب يفكر فى شيء آخر يعبر به، فلم يكن يريد أن يقدم أشياء مستهلكة سهلة، وهو ما جعله يتأخر فى طرح مشروعه لسنوات حتى نهاية الستينات، لكنه خلال تلك الفترة والتى تقارب العشر سنوات كان يراسل باب اعترفوا لمصطفى محمود فى مجلة صباح الخير، الغريب أن هذا الباب أمده مستجاب بأكثر من خمسين قصة بأسماء مختلفة سواء نسائية أو رجالية أو من أماكن مختلفة وكانت تنشر هذه القصص بل ويعلق عليها الدكتور مصطفى محمود عقب كل قصة: وراء هذه الكلمات كاتب موهوب، ثم فى عام 1971 جمع مستجاب كل هذه القصص وذهب للقاء مصطفى محمود ليقول له إن كل هذه القصص هى لشخص واحد وكان حدثا مدويا، وقد أراد رجاء النقاش أن يستغل هذه الواقعة للتشهير بمصطفى محمود وأن كاتبا شابا ضحك عليه لسنوات ولم ينتبه لذلك، لكن مستجاب رفض أن يدخل عالم الأدب بهذه الواقعة، كما لم يرد أن يدخل عالم الأدب بأنه كاتب السد العالى مثلا، هذه أبواب كان يمكن له أن يتم تدشينه كاتبا، لكنه أراد شيئا خاصا به وبقريته وباسمه، فقدم رائعته من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ والتى نجحت بشكل مذهل وكان معظم الكتّاب حينها يتمنون أن يكتبوا مثلها.. وكان يفتخر بذلك.
هو بذلك انتقم من العاصمة ومن إحساسه بعدائها له بأن يأتى بشىء جديد ويخترقها به، أى أنه ليس كاتبا عن الحارة كنجيب محفوظ أو كاتبا عن مكاتب الصحافة كفتحى غانم أو كاتبا عن ريف سينمائى كمحمود البدوى أو كاتبا عن ريف طبقى كيوسف إدريس، كلا هو قدم ريفا آخر لم تعتده القصة العربية، ريف اسمه ريف مستجاب.
بين عبد الناصر ونعمان عبد الحافظ
روايته الأولى من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ التى فازت بجائزة الدولة التشجيعية وحققت نجاحا كبيرا وصدى هائلا، وتناول فيها مستجاب شخصية تبدو أسطورية وغرائبية، هل حكى لكم عن شخص أو شخصيات فى الواقع استلهم منها روايته، ولماذا اسم نعمان عبد الحافظ.. وكيف رسم مستجاب هذه الشخصية؟
كثير لم ينتبه فى البداية للاسم (نعمان عبد الحافظ) هو نفسه بنفس الوزن (جمال عبد الناصر) أنت هنا تتحدث عن شخص أم شعب، هذا هو المكر المستجابى، وهو لم يرد أن تكون أسطورية أو غرائبية بل أرادها عالمية بأن يخلدها بهذا الشكل، أولا الرواية صغيرة وليست كبيرة الحجم، لكنها تحمل تاريخ أمه بحالها، ولأن الجملة لدى مستجاب جملة عظيمة وماكرة فيمكن لك أن تفسرها عدة تفسيرات، مستجاب أراد أن يؤرخ للزعيم جمال عبد الناصر، فلم يجد أمامه إلا قريب والدته – وهو ابن خالها – نعمان عبد الحافظ، والذى ينقلب العالم بسببه وتندلع الحروب وتتغير الدساتير، وهو جالس لا يعلم شيئا عما يدور يدخن الجوزة، هنا رأى مستجاب الشخصية المصرية عبر تاريخها الطويل، أو عبر فترات من تاريخها، وبالتالى لجأ إلى السخرية من كل شيء من الحكام ومن التاريخ، فظهرت بتلك العظمة وكأنه يتحدث عن نابليون أو إسكندر الأكبر أو جمال عبد الناصر.
لمستجاب لغة خاصة ومغايرة، يمتلك أسلوبا فى الكتابة قادرا على الإدهاش وإثارة الصدمات.. ما سر هذه الموهبة عند المبدع مستجاب؟
لا أعرف تفسيرا لهذه الموهبة العظيمة إلا أنها عطية من الله، وقد مرت هذه الموهبة بحوادث كانت كفيله بأن تقتلها، أى أن يتحول مستجاب إلى شخص آخر ربما يكون قاتلا أجيرا أو سائق عربة كسح نفابات أو مزارع، كما كان موهوبا فى الرسم وخطه جميل، إذن هو يعلم ما يحمله بداخله، وكيف قام بتنمية هذه الموهبة، إلى أن وجد ما يستطيع أن يعبر به وهى الكتابة، فإذا قرأت لمستجاب أوراقه الخاصة أو خطاباته ستجد موهبته فى الأسلوب عظيمة، هو يكتب بحرية عظيمة لم أرها عند أحد غيره، بالتأكيد توجد مقومات أخرى ساعدته مثل قراءته ورؤيته وبعض الأشخاص الذين التقوا به وقاموا بتوجيه تلك الموهبة، ليصبح مستجاب – مدرسة خاصة – فى السرد الأدبى سواء كان مقالا أو رواية أو قصة، هو لم يكن يريد أن يترك كما إبداعيا كبيرا أو فقط كان يحفر نهرا مستجابيا له ولمن يأتى من بعده، وهو ما سبب له الكثير من العداوات، وحتى الآن كثير يقلدون مستجاب ويحاولن الانتقام من مستجاب لأنه تجاوزهم فيقومون بالانتقام منى، هذا يجعلهم يستريحون أو يجعلهم لا يرون موهبة مستجاب مرة أخرى والتى تظهر فى بعض من أعمالى، فلو تأثرت بمستجاب فى عمل يقولون إنه يسير على نهج أبيه، وإذا ابتدعت يقولون إن لم يسر على نهج أبيه، أيها العالم يوجد مستجاب واحد فقط فى عالم السرد المصرى والعربى والعالمى سواء كنت أنا موجودا أو لا.. وسواء قام البعض بسرقة أفكار مستجاب أو أسلوبه سيظل مستجاب عالماً بذاته .
بعيدا عن الإبداع، عرف مستجاب أيضا بالكتابة الصحفية الفاتنة والجاذبة، وكتب أبوابا ثابتة فى العربى الكويتية وأخبار الأدب وضمها فى كتاب أو كتب حدثنا عن هذا الأمر؟
من أجمل الأشياء فى أدب مستجاب أنه لا يكرر نفسه، هو يريد أن يقدم لك قطعة أرابيسك تزين بيتك طوال الحياة، قطعة متفردة، ليست كبيرة أو تأخذ مساحة ، لكنها قطعة تظل تتحدث عنها وعن جمالها، وبالتالى فإن مستجاب – وأنا ألوم عليه – كان يكتب فى جميع الصحف والمجلات العربية، وكان مطلوبا بشدة وكان طبيعيا أن أرى رؤساء تحرير من الدول العربية أو مصر قادمين للبيت كى يقنعوا مستجاب أن يكتب أسبوعيا أو شهريا، وبالتالى فإن أعمال مستجاب فى تلك المجلات لاقت قارئاً كان ينتظره على ناصية الشهر أو الأسبوع مثل مقاله فى جريدة الشرق الأوسط او الدستور او الأسبوع “حرق الدم”، كما أن قارئاً هاما على مستوى الوطن العربى كان ينتظره أول كل شهر بمجلة العربى، هذه قدرات إبداعية وموهبة كان يضعها مستجاب بهذا الشكل، أى الموضوع ليس قصة أو رواية، وإذا أفضت إلى أن مستجاب كان متطورا فى السرد، فكيف ننظر إلى (زاوية كلمات لها معنى) وهى عبارة عن سطر أو اثنين فى واحة العربى، إنه هنا يريد أن يكتب قصة قصيرة فى سطر، وهى قدرات عظيمة بلا شك، والتى نجدها الآن منتشرة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعى وعندما أقول إن هذه العبارة لمستجاب كتبت منذ أكثر من أربعين عاما أو هذه الفكرة أو هذه الكلمات، فأنا لا أريد المتاجرة بهذا ، أنا أريد أن يعرف الناس أن مستجاب كان كاتبا موهوبا و استثنائياً وليس موهبته على مستوى السرد بل موهبته كشخصية على أرض الواقع، وهو ما جعل كثيرا من الناس تخلط بين ما يكتبه وبين شخصيته كإنسان وأب وزوج.
لمستجاب قصص وحكايات مع السد العالى وصورة جمال عبد الناصر، وربما تناولت أنت هذا الأمر وكتبت عنه.. حدثنا عن أيام مستجاب فى السد العالى وعلاقته الروحية بعبد الناصر؟
لا يوجد كاتب أحب جمال عبد الناصر وفى نفس الوقت غضب منه مثلما شاهدت أبى، لقد شعر مستجاب فى إحدى لحظات حياته أن جمال هو والده الحقيقى، شاهده فى تغيرات حدثت على أرض الواقع، المدهش أن هذه العلاقة انتقلت لأبى فى الشكل فإذا شاهدت بعض صور أبى ستجد قرب الشبه بينه وبين عبدالناصر بالإضافة إلى المنشأ وهى أسيوط وكأنه توجد قرابة بينهما، ولأن العالم تجمع فى مشروع السد العالى أى أن كفاح أمة كاملة وتحديد مصيرها ارتبط بهذا المشروع، وعندما عمل مستجاب بهذا المشروع شاهد أشياء ليس من السهل رؤيتها لأشخاص يعيشون فى القاهرة أو فى الريف، أى أن شخصيات الناس فى موقع السد كانت شخصيات أسطورية رغم بؤسهم ورغم الحرارة الشديدة، كل هؤلاء ومستجاب منهم وجدوا شخصا يتحدث بلسانهم ويحقق أمنياتهم الفقيرة هذا على مستوى العمال وهو ما فعله جمال عبد الناصر.. ولقد كتب مستجاب قصصا وحكايات كثيرة عن أيامه فى السد العالى، وللأسف الشديد إنه لم يكتب رواية عن هذا المشروع، وكان يقول دائما سوف يأتى الوقت واجلس اكتبها، وهو ما لم يحدث، لكن الحكايات والقصص التى كتبها مستجاب، لن نجد فيها أصوات الكراكات أو تحطيم الصخور أو حتى خطب عبد الناصر، بل سنجد أشخاصا آخرين يبحثون عن لقمة عيش يسدون بها أفواها أخرى فى مكان آخر ثم يأتى شخص يسرق تلك اللقمة أو يقدمونها عن طيب خاطر، مثلما حدث فى قصة “حرق الدم” وإذا أضفت أن مستجاب كان يتضايق أن يقول الناس إن مشروع السد العالى خاص بجمال عبد الناصر أو لتمجيد عبد الناصر، فمستجاب يقول ( أنا أبويا السد العالى) وبالتالى ينظر لمشروع السد العالى بأنه خاص به وحده، وكما قلت سابقا خشى مستجاب أن تكون بدايته أعمال عن السد العالى فيصبح كاتباً ذا أيديولوجية ناصرية، أو أنه كاتب السد العالى، كما رفض مستجاب الارتباط بناصر رغم حبه الشديد، وعندما ترك مستجاب السد فى بداية السبعينات و رحل عبد الناصر وانتقل مستجاب للعمل بمجمع اللغة العربية فى الجيزة، تحت قيادة الدكتور طه حسين، جاءت التعليمات بأن توضع صورة السادات بجوار صورة ناصر المعلقة فى جميع المكاتب، ثم جاءت التعليمات بأن يتم رفع الصورة مع الإبقاء على صورة السادات، هنا شعر مستجاب بالإهانة ليس لعبد الناصر الزعيم ولكن لأب وأخذ الصورة معه لبيته وظلت معلقة منذ منتصف السبعينات فى بيتنا حتى وقت قريب قبل أن نترك البيت القديم، والصورة موجودة لدى، هذه الصورة ليست صورة زعيم بل صورة جزء من العمر لوطن كامل، سواء كان رئيس جمهورية أو زعيم أو أب أو معلم.
عرف مستجاب بصراحته الجارحة وربما تصادم مع البعض بسبب هذه الصراحة، حدثنا عن معارك مستجاب على المستوى الإبداعى، وفى الحياة العامة؟
هذه إحدى مميزات ومشكلات أبى فى مجالسه.. أو على المقهى، هو يتحدث بعفويته وقد نقل عنه كلمات أصابت البعض أو رأيه فى بعض الأعمال، وهو ما جعله لا يهادن أحداً، فمثلا منذ فترة وجدت فى كتاب الجنوبى للأستاذة عبلة الروينى، تذكر أنه فى أحد الأيام التقى أمل دنقل بمستجاب وكان هذا فى عام 1976 تقريبا، وكان مستجاب قد نشر قصة تحت عنوان “فصل من قصة حب” والتقى مصادفة بأمل دنقل، هما كانوا أصدقاء وفى نفس الوقت ينفران من بعضهما لكن كل شخص يعلم قدر الآخر، فقال أمل العنوان حلو سوف أخذه لإحدى قصائدى لكنك متأثر بكافكا فى تلك القصة، فغضب مستجاب وسب أمل دنقل، هذا الموقف يدل على أن مستجاب كان واضحا فى أعماله، ومدى تأثيره فى الآخر حتى لو الآخر حاول أن يلطخ هذا، وقس على ذلك أنه كان يوجد صالون أسبوعى امتد لسنوات فى بيتنا، هذا الصالون كان به مبدعون كثر، وقد شاهدت بدايات كتاب وشعراء وممثلين فى بيتنا، أكلوا وشربوا وناموا وتعلموا فى مدرسة مستجاب بعضهم سرق أفكاره وبعضهم تأثر وتعلم وبعضهم لا يزال يدين بالفضل لمستجاب.. ومستجاب لم يكن يحب المعارك لكنه كان شديد الغيرة على الفن، وشديد الغيرة على الأدب المصرى، ويغضب أن يقوم النقاد بإرجاع كل نص يكتب إلى أصول غربية، وهذا ما كان يرفضه، حتى محاولة قول البعض تأثره بماركيز صعب جدا، وأتذكر هنا أننى فى عام٢٠٢٠ حصلت على جائزة من المركز الثقافى الصينى بالقاهرة وكان مقالى عن تأثر – مويان – الصينى – والذى حصل على نوبل 2012 بمستجاب الذى رحل 2005م، ولا تقل لى كيف، لو وجدت خيطا فى تأثير مستجاب على مويان، وعندما قرأت بعض أعمال مويان شعرت أننى أقرأ لمستجاب، فلماذا لا نفتخر بهذا، ولماذا دائما الغرب هو الأول فى كل شيء، نحن لدينا أعمال عظيمة لكن النقاد لدينا قاموا بقتلها.
من كان أقرب الأصدقاء لمستجاب؟
مستجاب كان له أصدقاء فى كل مكان ومن مختلف الطوائف، سواء كانوا علماء فى مجالاتهم أو موظفين أو بشراً عاديين، وكما ذكرت كان فى صالون مستجاب الكثير من الناس مثلا محمود حميدة وأحمد عبد العزيز ومحمود البزاوى وكمال أبو راية وآخرين، كما يوجد الدكتور محمد سليمان الشاعر ويسرى خميس وأحمد فؤاد نجم ومحمد الحسينى، ثم فى سنواته الأخيرة أصبحت صداقته منتقاه ربما بسبب العمر أو بعد أزمة علاج أختى الصغيرة سوسن فأصبح أصدقاء مستجاب الدكتور أحمد مستجير والدكتور أحمد مرسى والدكتور محمد الرميحى من الكويت والدكتور جابر عصفور وبهاء طاهر وخيرى شلبى وإبراهيم أصلان وآخرون، وكثير من الناس كانت تتمنى لقاء مستجاب أو زيارته فى بيته، فقد وجدت صورة أرسلها لى الأستاذ محمد فاتح الزغل له فى بيتنا، وهو كان فى تلك الأثناء وزير الثقافة فى سوريا.
لمستجاب قصة أنتجت فيلما من بطولة ليلى علوى اسمه الفأس فى الرأس وربما كتب هو عن لقاء مع ليلى أثناء تنفيذ العمل.. حدثنا عن هذا الأمر؟
قصة النجعاوى والتى تحولت إلى فيلم سينمائى تحت عنوان: “الفأس فى الرأس” وهى قصة كان قد بدأ كتابتها، وللأسف لأنه كان يحكى دائما فى صالونه الأسبوعى أفكار قصصه، فقد شعر بأن القصة سوف تسرق كما حدث مع قصة أخرى شهيرة فسارع مستجاب بكتابتها سريعا فى شكل حكاية وأعجب بها المخرج وحيد مخيمر وليلى علوى والفنان عزت العلايلى، وبالتالى خرجت فى شكل فيلم، والفيلم لم يظهر كما كان يريد مستجاب، وهو ما أغضبه، كما أنه لم يجرب مرة أخرى الكتابة للسينما لأنها تحتاج مواصفات ليست متوافرة له، وقد خرجت له قصة “قطار إلى المرج” من إخراج علاء عزام كفيلم تسجيلى لمدة نصف ساعة للممثلين صبرى فواز ومحمد متولى، وسوف تجد تأثير هذه القصة فى فيلم “ساعة ونص” فكل ما سبق أننى أريد أن أشرح تأثيرات مستجاب، فأنا هنا لا أحاسب من تأثر أو سرق، لكنى أحب أن أنبه للحقوق، وبالتالى هذا حق أبى، أما بعلاقته بليلى علوى، فقد اكتشف جمالها الذى تغار منه النساء قبل الرجال، وكانت ليلى علوى حينها مكتسحه السينما وهو ما جعل بين مستجاب وليلى علوى ارتباطا، خاصة أنه قد زارها فى بيتها وكتب هذا بأنه شخص قام بزيارتها وهو قادم على جمل، مستجاب كان يفهم فى أشياء جعلت منه قصة حب بتكوينه الجسمانى وملامح وجهه، وبالتالى انتشر فى الوسط حينها هذه العلاقة فمستجاب كان يتحدث دائما عن جمال ليلى علوى الفريد.
عن نجيب محفوظ
هل كان مستجاب من مريدى نجيب محفوظ، وهل جمعتهما لقاءات أم أنه لم يكن مقربا منه، وكيف استقبل فوز محفوظ بنوبل؟
كان مستجاب يكره أن يكون من مريدى نجيب محفوظ، وهو من أكثر الناس التى قرأت مشروع نجيب محفوظ بقوة، حتى لا يظهر هذا التأثير فى أعماله، وكان يتضايق أن كل كاتب يريد أن يقول إنه خرج من حارة نجيب محفوظ، لكنه لا ينكر عظمته وأستاذيته ودأبه فى الكتابة باستمرار، والمدهش أننى وجدت مقالا للدكتور نصار عبدالله يحكى فيه أنه ذهب لجلسة نجيب محفوظ فى بداية الثمانينات وقدم له نسخة من رواية مستجاب” من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ”، وفى اللقاء التالى سأله ما رأيه فى الرواية، فقال نجيب محفوظ أنها أعظم رواية ساخرة فى الخمسمائة عام الماضية.. لكن مستجاب لم يتكسب من هذا المديح مثلا ولم يذكره فى جلساته، لأنه كما ذكرت – يشعر أنه لا يوجد كاتب – يشبعه ويرضيه إلا مستجاب، وذات يوم فى أحد الحوارات قال إن نجيب محفوظ ممل وإحسان عبد القدوس يصلح لكتابة الخطابات، وقد أثار هذا الحوار لغطا حينها بين مؤيد وبين من هون من هذا الكلام على أساس أنه سخرية من مستجاب كما اعتادوا، لكنهم خشوا على أنفسهم من نجيب محفوظ والشلة التى حوله، لكنه كان يقدره ويحترمه ويعرف قدره لكن يحيى حقى ويوسف إدريس كانا أقرب لقلب مستجاب من نجيب محفوظ، بالنسبة لفوز نجيب محفوظ أتذكر أنه قال أثناء تناولنا الغداء حينها وكنت فى الصف الثالث الإعدادى، الموظف خد نوبل.
أخيرا.. حدثنا عن محمد مستجاب الإنسان، الأب، ومدى كرمه ومحبته!
مستجاب الأب هو مستجاب الكاتب هو مستجاب الذى كنت دائما فى خلاف معه، فنحن أربعة أخوة كنت أنا وسوسن الصغرى أقربنا إلى قلبه أنا أول من يقرأ مقالات ويقوم بتوصيلها للصحف والمجلات، وسوسن كانت عماد البيت فى تلقى المكالمات ومتابعة حالته الصحية، لكنه كان يبدو لنا حادا لأنه يريد كل شىء بالمسطرة كما يقولون، أو كما تربى، وهذا ما صنع بينى وبينه – شد وجذب- حتى فى مستوى القراءة، وعندما بدأ مشروع مكتبة الأسرة عام 1994 كان يقول لى اشترى نسختين من كل كتاب، لتصبح لى مكتبة خاصة بى بعيدا عن مكتبة أبى، لكنه كان يتابعها من بعيد، حتى عندما كتبت الصحف قبل رحيله شيئا عنى، غضب وقال لى روح غير اسمك، قلت له سوف أقول محمد مستجاب الصغير، ضحك ورفض وقال لا يوجد إلا مستجاب واحد، أما بخصوص كرمه وسخائه فهذا شىء لن أستطيع التحدث فيه، يكفى ما أراه من حب فى كثير من المواقف أو أنه ما يزال وهو فى قبره يمد لى يده بالمعاونة أو بالمعونة أو بالحب العظيم.. بين أب وابنه أو بين كاتب عظيم وكاتب من صلبه يريد أن يسير على نهجه.