«دراما إف إم».. عندما يسرد «الأثير» تاريخنا بشكل درامي

مولود جديد فى عيد الإعلاميين
وسط أروقة مبنى الإذاعة فى ماسبيرو، وبين رائحة الأشرطة القديمة وعبق الذكريات، كانت «دراما إف إم» حلماً مؤجلاً منذ أكثر من ربع قرن، حتى أصبح واقعاً ينبض بالصوت والصورة الوجدانية. لم تكن المسألة مجرد إعادة بث، بل استعادة لذاكرة أمة وشريط زمنى لا يملك مثله أحد فى العالم. هنا، داخل استوديوهات تحمل أسماء بحجم «بابا شارو»، تقف الإذاعية الكبيرة إيناس جوهر، بروح طفلة تشتاق إلى الميكروفون، تنطلق بنغمة صوتها المعروفة لتُسجّل تنويهات الإذاعة الجديدة، كأنها فراشة تحلّق داخل الاستوديو، تسبق الجميع وتمنح الميكروفون سحراً غير مسبوق، وكأنها لم تفارقه لحظة.
الإذاعية إيناس جوهر، اختصّتنا بتصريحاتها أثناء عمل البروموهات «دراما إف إم» ولم تخفِ سعادتها بإنشائها ولم تُخفِ قلقها من تسريب الأعمال الإذاعية القديمة على الإنترنت، مؤكدة أن كل شىء أصبح متاحاً على اليوتيوب ومواقع التواصل، وكل من يجلس بجوار الراديو صار قادراً على التسجيل بسهولة. تقول بصدق الإذاعية العاشقة لما تُقدّمه: «لازم يتقفل على هذا التسريب المفتوح.. إحنا بنخسر تراثنا بدون وعى». وقد أشارت إلى أعمال نادرة مثل «الرحلة» من بطولة فاتن حمامة وإخراج نور الدمرداش، وهو العمل الإذاعى الوحيد الذى أخرجه، والمسلسل الوحيد الذى أخرجه حسين كمال «كل هذا الحب» مع نور الشريف، ونبيله عبيد وأعمال لمحمد فاضل ومحمد عبدالعزيز، مؤكدة أن بعضها لا يوجد كاملاً، وإنما نملك منه فقط حلقات ملخصة.
وترى إيناس أن فكرة إذاعة متخصصة للدراما تأخرت كثيراً، وأنه كان يجب أن تُطلق قبل سنوات، لكنها رغم فرحتها بالمشروع، تعترض على توقيت البث من الثالثة والنصف فجراً حتى الثالثة والنصف عصراً، قائلة: «مين صاحى الساعة ٣ الصبح يسمع مسلسل؟ الدراما محتاجة توقيت استماع حقيقى، زى ما الأغانى نجحت لأن الناس بتسمعها فى العربيات طول النهار».
يقول رئيس الإذاعة محمد نوار أن هذا البث لا يُمثّل الشكل النهائى، وأن ما يُقدَّم الآن هو بث تجريبى، وأن توقيتات البرامج والخريطة الكاملة ستُعاد صياغتها مع انطلاق البث الفعلى. ويضيف نوار: «لدينا أكثر من 425 ألف شريط، 30 ألف أسطوانة، 20 ألف دات.. هذه ليست مجرد مكتبة، بل كنوز إذاعية لا مثيل لها». ويضيف أن المرحلة الأولى ستقتصر على إذاعة المسلسلات فقط، والتى تتجاوز 2000 مسلسل منذ عام 1956، أما الفترة من 1934 إلى 1956 فهى تجارب فردية لم تُجمع مؤسسياً بعد.
وراء هذه القناة الجديدة جهد ضخم قد لا يراه الكثيرون، لكن لا يمكن أن نغفله.. إنها السيدة نعيمة حسين سلطان، كبير بدرجة مدير عام بالإدارة العامة لتنسيق الإذاعة، والتى تستحق عن جدارة لقب «الجندى المجهول». فقد تولت بمثابرة نادرة مهمة توثيق أكثر من 2000 عمل درامى إذاعى، بما يقارب 425 ألف ساعة إذاعية.
استمعت بنفسها إلى الشرائط، وثّقت كل شريط ورقمه ومدته، سجلت أسماء المؤلفين والمخرجين والممثلين وتاريخ الإنتاج، وقامت بتجميع هذه البيانات فى ثلاثة إصدارات أرشيفية تمثل العمود الفقرى لدراما إف إم:
الإصدار الأول: من عام 1956 حتى 1970
الإصدار الثانى: من 1970 حتى 2000
الإصدار الثالث: من 2000 حتى 2019
هذا الإنجاز الذى جرى بإشراف محمد نوار يستحق التكريم، وتحديداً فى عيد الإعلاميين، اعترافاً بجهود نعيمة حسين وفريقها فى حفظ ذاكرة إذاعية نادرة.
ويكشف نوار عن كواليس اتخاذ القرار: «حين توليت رئاسة الإذاعة كانت هناك ميزانية لإنتاج مسلسلات رمضانية، وفى السنة التالية لم يكن هناك تمويل، فاقترحت إنتاج مسلسل واحد فقط هو (شنبو فى المصيدة) وأذعناه على كل الشبكات، ونجح. نحن نملك شبكة ضخمة من الإذاعات، ويكفى توظيفها بذكاء».
أما عن اختيار موجة الشبكة الثقافية للبث، فيوضح نوار أن الشبكة الثقافية، التى تبث 12 ساعة يومياً، هى إذاعة النخبة ولا يمكن الاستغناء عنها، وجاء اختيارها كموجة مؤقتة لحين الانتهاء من تجهيزات محطة مستقلة، تماماً كما بدأ بث إذاعة الأغانى وإذاعة ماسبيرو زمان كتجربة.
الدكتور محمد لطفى نائب رئيس الإذاعة والمشرف على دراما إف إم، يصف الإذاعة بأنها مشروع ذاكرة وطن الدراما الإذاعية ليست فقط متعة سمعية، بل وثيقة اجتماعية ونفسية لصوت الناس فى زمنهم
نحن لا نتحدث فقط عن إذاعة جديدة، بل عن مشروع ثقافى ووطنى يمكن أن يغيّر مشهد الإعلام الصوتى بالكامل.
وأتمنى أن يتم بثها عبر الإنترنت فى المستقبل، وترافقها موجة «أثيرية» على الراديو، توازن بين الاحترافية وروح العصر بخريطة ذكية تتنوع بين المسلسلات، السباعيات، التمثيليات، السهرات، الأوبريتات، والحوارات النادرة مع رموز الفن والفكر.
كما تؤكد فاطمة حسن، مدير إذاعة دراما إف إم، أن البث التجريبى مستمر لثلاثة أشهر من 3:30 صباحاً إلى 3:30 عصراً، ويهدف إلى اختبار التفاعل مع هذا التراث الضخم، مؤكدة أن هذه الإذاعة مخصصة للمسلسلات التى تمتلكها الإذاعة المصرية منذ الستينات، وأنه مشروع يعيد الجمهور، خصوصاً الشباب، إلى دراما الصوت.
فى النهاية، فإن «دراما إف إم» ليست مجرد إذاعة جديدة، بل استدعاء حقيقى لصوت الوطن، إلى ذاكرة لم تمت، بل كانت تنتظر من يُنفض عنها غبار الإهمال، ويعيدها إلى آذان وقلوب المصريين. إنها تجربة مصرية خالصة، تعيد الاعتبار لصوت الميكروفون، ولأبطال الزمن الجميل الذين ما زالوا يروون حكايتنا، فقط إن أصغينا لهم كما ينبغى.
أرقام لا تُصدق: كنوز الإذاعة المصرية بالأرقام
425 ألف شريط إذاعى
30 ألف أسطوانة تراثية
20 ألف شريط دات
أكثر من 2000 مسلسل من 1956 حتى اليوم
إذاعة بث تجريبى 12 ساعة يومياً لمدة 3 شهور.