التهاني الجاهزة والمشاعر المصنعة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي

التهاني الجاهزة والمشاعر المصنعة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي

“رنة تليفون.. دقة باب وزيارة عائلية.. صوت ينادي بوسطة.. “.. من طقوس العيد التي طالما أسعدتنا في زمن التواصل الإنساني المباشر الدافيء بلا حواجز وبدون شاشات قبل ظهور “الموبايلات” والانترنت و”السوشيال ميديا “.

ومع حلول الأعياد والمناسبات.. كم نستشعر النوستالجيا (nostalgia) أو الشعور بالحنين الجارف إلى الماضي،الذي يحمل ذكريات إيجابية ومشاعر طبيعية جميلة في الأعياد حين كان الناس في صباح يوم العيد يزورون الأقارب لتقديم التهنئة وجها لوجه، ويلتفون حول موائد الولائم ومجالس السمر وكانوا يشترون “كروت التهنئة” من المكتبات ويكتبون ويرسمون عليها عبارات تهاني بخط اليد المميز لتحمل أجمل المشاعر الصادقة وتعبر عن الاهتمام والخصوصية في صورة “عيدية معنوية” .

أما الآن، في عصر “السوشيال ميديا” والذكاء الاصطناعي.. فانتشرت التهاني الإلكترونية “المعلبة” بلا طعم ولا روح ولا رائحة وكأننا تحولنا إلى روبوتات بشرية متحركة بلا مشاعر حيث يتبادلها أغلب مستخدمي الهواتف الذكية سواء على الانترنت أو مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي، مما حرم مجتمعاتنا من تلك الحميمية والدفء والود المتبادل في الأعياد .

ومن مؤشرات انتشارها بالعالم ومصر أن هناك نحو  7.21 مليار هاتف ذكي بالعالم و يمثل هذا الرقم حوالي  90% من سكان العالم البالغ عددهم 8 مليارات نسمة. كما بلغ عدد مستخدمي الإنترنت بالعالم 5.6 مليار شخص في بداية عام 2025، مما يعني معدل انتشار يصل 68%.

وفي مصر ، بلغت نسبة انتشار المحمول 105.6% حسب تقرير وزارة الاتصالات مارس 2025 وبلغ عدد الاشتراكات في خدمات الهاتف المحمول نحو 120 مليون مشترك بداية 2025 وذلك حسبما أعلنه الدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات خلال افتتاح منتدى تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) بمصر 19 مايو 2025.
ويصل عدد مستخدمي الإنترنت 96.3 مليون فرد حتى مطلع عام 2025،وهناك 85.46 مليون مشترك في خدمات انترنت المحمول صوت وبيانات .

أما وسائل التواصل الاجتماعي. فيستخدمها نحو 5.17 مليار فرد على مستوى العالم، ويعد موقع Facebook منصة التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية في جميع أنحاء العالم، حيث يبلغ عدد مستخدميه النشطين شهريا 3.07 مليار مستخدم .ويمثل هذا الرقم 37.81% من سكان العالم و59.38% من إجمالي مستخدمي “السوشيال ميديا” في أنحاء العالم حتى يناير 2025 حسب ( Meta Investor Relations ، Statista  Data Reportal)..

وعادة ما يتم التراسل عبر منصات أخرى متداخلة مع فيسبوك و منتشرة..فمثلا 77.6% من مستخدمي “فيسبوك” يستخدمون الانستجرام أيضا. و73.4% من مستخدمي “فيسبوك” يستخدمون اليوتيوب أيضا و72.9% من مستخدمي “فيسبوك” يستخدمون أيضا تطبيق WhatsApp و37% من مستخدمي “فيسبوك” يستخدمون “إكس” أيضاو52.1% من مستخدمي “فيسبوك” يستخدمون أيضا تطبيق TikTok. وقد بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في مصر 50.7 مليون شخص حتى يناير 2025، وهو ما يعادل 43.1% من إجمالي السكان..

والأخطر أن التهاني الإلكترونية التي يتم تداولها عبر التقنيات الحديثة، يتم عادة تحميلها من الانترنت وأحيانا يتم الاكتفاء بإرسال بطاقات تهنئة جاهزة، دون حتى الكتابة عليها أو التعديل في الصياغة، وإعادة توجيهها كما هي بشكل جماعي من خلال ضغطة واحدة على “مفتاح أو زر” إلى عشرات بل مئات من جهات الاتصال إلى جميع الأهل والأصحاب والمعارف دون إشعارهم بالخصوصية والمودة وربما يكون من بين جهات الاتصال من لا تربطنا به صداقة أصلا .

وقد تكون التهنئة نوع من الدعاية سواء الشخصية أو المهنية أو التجارية ..فهناك من يرسلون نماذج تهنئة جاهزة بأسمائهم وصورهم أو مشروعاتهم او بمعالم مشهورة..

ولا ننكر أهمية هذه التهاني الإلكترونية في توفير الوقت والجهد والتكلفة وكونها وسيلة عملية سريعة للتواصل في محيط زملاء العمل أو التعاملات الرسمية لكنها تفقدنا كثيرا من بهجة العيد عند التواصل مع الأقارب والأصدقاء خاصة من طال اشتياقنا إلى سماع صوتهم وضحكاتهم ومعرفة أخبارهم والنظر في عيونهم ورؤية انفعالاتهم وترجمة لغة جسدهم .

* بهجة سريعة ومصطنعة

ورغم تطور لغة الايموجي ( الرموز التي تعبر عن المشاعر والأفكار بشكل بصري) بفضل برامج الذكاء الاصطناعي بشكل يتيح للبعض التهنئة المباشرة، فمثلا يمكنك ارسال تهنئة بالفيديو لكل إنسان عزيز على قلبك، وأنت تتحدث إليه مباشرة رغم ما بينكما من مسافات أو إعداد تهاني خاصة بالصوت والصورة وتصميمها مصحوبة بكل التعليقات و”الافيهات” والحركات الا أنها مازالت محدودة ومصطنعة وتفتقد الروح والحياة والدفء والبهجة التي يحققها التواصل “الفريش” عن قرب خاصة مع الأحباء ..

فمازالت برامج الذكاء الاصطناعي تفتقد القدرة على نقل الاحاسيس الطبيعية رغم نجاح روبوتات الدردشة مثل ChatGPT في صياغة رسائل معايدة فريدة وشخصية، مع إمكانية توليد أصوات مقلدة للأصدقاء لإرسال تهاني تبدو وكأنها بصوتهم الحقيقي، واستخدام الواقع الافتراضي لإنشاء تجارب تهنئة تفاعلية.

وعلى الوجه الآخر .. مثلما تيسر هذه التهاني الإلكترونية الوصول للملايين من المعارف والتواصل مع المسافرين دون اتصالات دولية مكلفة إلا أنها قد تكون مزعجة أو قد ينتظر المرسل ردا سريعا من المرسل إليه، وإلا سيشعر بنوع من القلق أو سوء الفهم على أن المرسل إليه لا يريد التواصل معه بسبب عدم الرد على الرسالة بسرعة أو تجاهلها خاصة اذا تحققت من رؤيتها بخاصية ” seen” ، الأمر الذي يشكل ضغطاً نفسياً أو يحدث تأثيرا عكسيا للرسالة.

والحقيقة أن العودة للتواصل الإنساني المباشر على الأقل في الأعياد والمناسبات بقدر المستطاع ليست ترفا وانما حسبما يؤكد العلم دواء سحري المفعول لأمراض القلب العليل والاكتئاب الشديد ووصفة طبيعيةلرفع المناعة لأن الود الحقيقي يزيد من إفراز هرمون السيروتونين وبالتالي يرفع مقاومة الاكتئاب ويقلل القلق والتوتر ويحقق التوازن النفسي والصحي ..

فالأعياد فرصة للخروج من “الفقاعة” أو القوقعة الإلكترونية والتوقف عن تبادل رسائل مجمدة ربما تكون فاقدة الصلاحية والتأثير واستنشاق هواء نقي وري مشاعرنا وانعاشها لمقاومة جفاف التعاملات الذكية الاصطناعية التي تفقدنا البهجة الحقيقية التي تحمينا من الأزمات القلبية والنفسية وسط زحام وضغوط وتنافس مع روبوتات بلا قلب في عالم طغت فيه الماديات على الروحانيات والإنسانيات والمشاعر الحقيقية الصحية.