خريسات يكتب: فطرة تتحدث قبل المعرفة.. عندما عاتب موسى الخَضِر على نقاء الروح وليس جهل القلب

مدار الساعة – كتب أ. فراس خريسات: حين ركب نبي الله موسى عليه السلام مع العبد الصالح، وخرق الخَضِر السفينة التي أقلّتهم، لم يسأل موسى:“أخرقتها لتُغرقنا؟”بل قال:“أخرقتها لتُغرق أهلها؟ لقد جئتَ شيئًا إمرًا.” [الكهف: 71]في لحظة يغرق فيها الناس في غريزة النجاة، وينشغل كلٌ بنفسه، جاء اعتراض موسى لا خوفًا على ذاته، بل غيرة على القوم الذين لا ذنب لهم.نسي نفسه، وانشغل بغيره.نسي نجاته، وتذكّر أهل السفينة.تلك فطرة الأنبياء حين يُصنعون على عين الله، فتصبح أرواحهم مرآةً للرحمة، وقلوبهم تسكنها الحمية للحق، ولو على حساب أنفسهم.قال العلماء: لم يُخطئ موسى في الغضب، ولا في الإنكار، لكنه كان في مقام الفطرة التي تنكر الظلم حين تراه، وتنطق بالحق قبل أن يُفسَّر لها الفعل.ليس اعتراض موسى عن جهل، بل عن أدب!لو كان موسى عليه السلام قليل الفهم، لما استحق أن يُصطَفى، ولما قال له ربه:“وألقيتُ عليك محبة مني، ولتُصنع على عيني.” [طه: 39]“واصطنعتُك لنفسي.” [طه: 41]موسى لم يعترض لأن علمه ناقص، بل لأنه صاحب فطرة نقية وأخلاق راقية، لا يقبل أن يُقابل الإحسان بالإفساد، ولا المعروف بالإساءة.فحين رأى السفينة، وسلامة ركابها، لم يسعه إلا أن ينكر، لا على الخَضِر كشخص، بل على الفعل في ظاهره.وكان في اعتراضه أدبٌ عظيم، إذ نسب الفعل للغرض:“أخرقتها لتغرق أهلها؟”فهو يُحاور، لا يُهاجم… يُسائل، لا يُسيء الظن.فطرة الأنبياء لا تعرف الأنانيةتأمل… حين رأى الخطر، لم يُفكر في نفسه، بل في الناس.وفي مشهد يُفترض فيه أن يقول الجميع: “نفسي… نفسي”، كان موسى يقول: “أهلها!”أين نحن من هذا المشهد؟أين نحن من فطرةٍ ترى الخطر على الغير خطرًا على الذات؟من قلبٍ لا يقبل أن يُمسّ الآخرون بأذى، ولو كان ناجيًا منه؟الاعتراض من شدة النُبل لا قلة الفهماعتراض موسى لم يكن ضعفًا في التصديق، بل قوة في الوفاء، وغيرة على المعروف.أراد أن يفهم، لأن الحق في نفسه لا يقبل أن يُخدش.وكأنما صرخ ضميره النقي قائلًا:“هذا إحسان، فكيف يُجازى بالإفساد؟!”وما عَلِم أن الخَضِر كان مأمورًا… مأذونًا… ذا علمٍ مختلف.لكن الفطرة تسبق العلم أحيانًا، وتتكلم الأخلاق قبل أن ينطق العقل.لنُراجع أنفسنا: هل بقي فينا شيء من موسى؟أين نحن من ذاك النبض الطاهر؟حين نرى المعروف يُقابل بالجفاء، هل ننكره؟ أم نصمت تحت شعار “مو شغلي”؟حين يُساء لضعيف، هل نهبّ للدفاع، أم نُدير وجوهنا وكأننا لم نرَ شيئًا؟حين يُهدم جميل، هل نقف كما وقف موسى؟ أم نقف حيث يُملي علينا الحياد؟ختامًا: موسى… رجلٌ فُطر على الغيرة لله، لا لنفسهفي موقفه هذا، لم يُخطئ موسى، بل تكلّمت فيه فطرته التي صُنعت لله، وتربّت على مرآى من رحمته.فكان إنكاره شفقة، لا اعتراضًا… وكان غضبه لله، لا لذات.وما أحوجنا اليوم إلى نفوسٍ تغضب للمعروف إذا هُدِم، وتغار للحق إذا انتُهك، وتقول حين ترى الباطل:“لقد جئتَ شيئًا إمرًا.”