الخوالدة يتناول: من يوقف من؟… لعبة التوازنات تعود دون قواعد واضحة – بقلم: د. زيد إحسان الخوالدة

ساعة مضت كأنها قرنٌ من الخوف… لا أحد يجيب في طهران عن السؤال الكبير: من دخل؟ من اخترق؟ من دلّ؟ ومن صمت؟ما جرى في إيران خلال الساعات الثمان والأربعين الأخيرة ليس حدثًا عابرًا، بل يمثل منعطفًا استراتيجيًا تتقاطع فيه حسابات الأمن ودوائر النفوذ وحدود الردع، ويفتح الباب واسعًا أمام مشهد إقليمي جديد تتبدّل فيه موازين الردع والمعادلة الأمنية في المنطقة.إسرائيل، التي حصلت مؤخرًا على قنابل خارقة من الإدارة الأميركية، كانت تستعد لما هو أبعد من غزة. فالمناورات الجوية في الشمال السوري، لم تكن مجرد ردع استباقي، بل تمرينات حرب متقدمة، تستهدف تشكيل مشهد إقليمي جديد، وإعادة فرض الواقع بالحديد والنار.لماذا هذه الضربة شكلت زلزالا لإيران؟لأنها كشفت أن إسرائيل قادرة على الضرب من “الداخل والخارج” في وقت واحد.لأنها جمعت بين الحرب السيبرانية والضربات التقليدية والاختراق الاستخباري.لأنها هزّت الثقة بالمنظومات الدفاعية الإيرانية.الهدف المعلن كان اغتيال علماء نوويين وقيادات من الصف الأول، لكن ما بين السطور، كان الهدف الأكبر سياسيًا بامتياز، يتمحور حول تصوير إسرائيل كقوة قادرة على فرض سيادتها العسكرية بلا خطوط حمراء، واستثمار هذا التصعيد لتكريس وضع داخلي مأزوم في تل أبيب.الأردن: سيادة مسؤولة وموقف ثابتمن المهم التوضيح أن سلاح الجو الإسرائيلي لم يستخدم الأجواء الأردنية مطلقًا خلال هذه العملية، وهو ما أكّدته جهات رقابية مستقلة وتحليلات ميدانية.كما أن الدفاعات الجوية الأردنية، وسلاح الجو الأردني، يعملان بكفاءة عالية على حماية المجال الجوي والسيادة الوطنية، خصوصًا مع تكرار تساقط شظايا أو أجزاء من الصواريخ الاعتراضية أو الهجومية في مناطق قريبة من الحدود الأردنية، نتيجة لاعتراضها في الأجواء بين الأراضي الفلسطينية والمجال الأردني.من المعروف أن منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية متعددة الطبقات (قصيرة، متوسطة، وبعيدة المدى)، ما يجعل احتمالية اعتراض بعض الصواريخ في أجواء قريبة من الأردن واردة من الناحية الفنية.أما الاتهامات التي يروج لها بعض أصحاب الأجندات المشبوهة حول تسهيلات مزعومة من الأردن، فهي ادعاءات باطلة، لا تستند إلى دليل، وتتناقض تمامًا مع مواقف الدولة الأردنية الثابتة في حماية استقلالها وسيادتها.نتنياهو: من المأزق القضائي إلى الحروب الاستعراضيةمن الصعب فصل هذه التطورات عن المسار السياسي لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي يعيش وضعًا قانونيًا مأزومًا يهدد مستقبله السياسي والشخصي.إشعال الجبهات، والتصعيد الخارجي، هو محاولة لتصدير الأزمة الداخلية الإسرائيلية، وإعادة إنتاج نتنياهو كـ”منقذ قومي”، قادر على ردع الخصوم وحماية الكيان.الرد الإيراني: مفاجأة نوعية لكنه جاء متأخراً (الصبر الاستراتيجي جاء متأخراً)المفاجأة الحقيقية لم تكن في الضربة، بل في الرد الإيراني الذي طال العمق الإسرائيلي.لأول مرة منذ سنوات، تخرج إيران عن خطاب “التحفظ الاستراتيجي” لتضرب فعليًا داخل إسرائيل بصواريخ دقيقة ومباشرة، معلنة بذلك أن قواعد الاشتباك قد تغيّرت.إسرائيل قبل 7 أكتوبر ليست كما بعدهاالعملية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 كانت زلزالًا استراتيجيًا، كسرت فيه إسرائيل مبدأ الحروب السريعة والمنتصرة.تبنت إسرائيل عقيدة قتالية طويلة الأمد، لتوحي أنها قادرة على تحمّل معارك طويلة، وانها غير مطمئنة لأي هدوء إقليمي.العرب بين الاعتدال والممانعة: مراجعة ضروريةفي خضم هذا المشهد، لا بد من إعادة النظر في المواقف العربية.مدرسة الاعتدال العربي، رغم ما يُوجّه لها من نقد، أثبتت أنها الأقرب إلى الواقعية السياسية والعقلانية الاستراتيجية، مقارنة بما يُسمى بمحور “الممانعة”، الذي اختلطت فيه الشعارات بالأجندات، وتحولت فيه سوريا إلى نموذج لفشل مشروع كان عنوانه الظاهري الصمود، ونتيجته كانت خرابًا للدولة والمجتمع.هذا التناقض لم يكن هامشيًا، بل كان أحد الأسباب المركزية في تأزيم المشهد العربي وإضعاف الداخل، وهو ما استفادت منه إسرائيل لتثبيت تفوقها وتعميق الانقسام في جسد الأمة.نحن أمام لحظة مفصلية.التصعيد في إيران، والرد في إسرائيل، والتحركات الإقليمية، كلها تعكس حالة من السيولة الاستراتيجية التي لا يمكن ضبطها بالوسائل التقليدية.إسرائيل، بإدارتها الحالية، تحاول إنقاذ نفسها بالغرق في أزمات جديدة، وإيران، من جهتها، ترسل رسائل قوة لا يمكن تجاهلها.وفي قلب هذه الدوامة، تبقى الأمة العربية مطالبة بإعادة بناء مشروعها السيادي المشترك، القائم على الواقعية لا الانفعال، وعلى السيادة لا الارتباط، وعلى الوحدة لا الانقسام.إيران بعد الضربة ليست كما قبلها.أمامها الآن ثلاثة سيناريوهات:الصبر التكتيكي بانتظار فرصة الرد المناسب لاحقًا.غالرد غير المباشر عبر “وكلائها” في المنطقة (الحوثيون، حزب الله، الميليشيات العراقية).أو التصعيد المحدود الذي لا يتحول إلى حرب شاملة.لكن الأهم: أن أمنها الداخلي لم يعد خطًا أحمر، وهذا أكبر إنذار استراتيجي لطهران منذ سنوات.نسأل الله أن يحمي دماء المسلمين والعرب، وأن يجعل بأس الظالمين في نحور بعضهم، وأن يخرج أمتنا من دائرة الفوضى إلى أفق السيادة والكرامة.