العوايشة: تأثير إنترنت الأشياء في المدن الذكية قد يعطل الحياة ويشكل خطرًا على السكان – بقلم: عايدة العوايشة

تواصل معي البروفيسور محمد الفرجات، المهتم بالشأن التنموي، متسائلا عن مدى خطورة ترك إنترنت الأشياء يتحكم بالمدن الذكية بلا قيود،،،وأجبته بأنه وفي سباق محموم نحو التقدم، تمضي البشرية بخطى سريعة نحو المدن الذكية، حيث تتكامل التكنولوجيا مع البنى التحتية، ويغدو كل شيء – من إشارات المرور إلى المصانع – جزءًا من شبكة واحدة مترابطة تدعى بـ”إنترنت الأشياء” (Internet of Things – IoT).وعلى الرغم من الفوائد التي لا يُنكرها أحد، فإن هذه التقنية تحمل في طياتها وجهًا مظلمًا وخطرًا لا يقل عن خطر الأسلحة التقليدية، بل ربما يفوقها، نظرًا لأنها تستهدف الحياة اليومية للبشر مباشرة، وتمتد إلى كل بيت ومرفق ومنشأة دون تمييز.في هذه المقالة، نسلط الضوء على ما قد يبدو في ظاهره تقدمًا مذهلًا، لكنه في حقيقته قد يكون بابًا لـ فوضى رقمية شاملة، في حال اختُرقت السيطرة، أو تعطلت البرمجيات، أو تم استهداف المدينة بفايروس رقمي فتاك.المدن الذكية وإنترنت الأشياء: عالم مترابط بالكاملإنترنت الأشياء هو مفهوم يقوم على ربط الأجهزة والمجسات والأنظمة المختلفة ببعضها البعض عبر الإنترنت، ما يسمح لها بجمع وتحليل البيانات والتصرف بناءً على الأوامر أو حتى بناء على “التحليل الذاتي”.في المدن الذكية، يشمل إنترنت الأشياء عددًا ضخمًا من الأنظمة، من بينها:إشارات المرور والمراقبة المرورية.محطات الكهرباء والماء والاتصالات.المستشفيات والمراكز الصحية.المدارس والجامعات والمنشآت التعليمية.أنظمة الأمن والمراقبة.البيوت الذكية.المصانع والمتاجر وشبكات التوريد.المركبات ذاتية القيادة والمركبات المتصلة.في هذا النموذج، تصبح المدينة كيانًا رقميًا حيًّا يتنفس المعلومات، ويتخذ قرارات آنية في ضوء البيانات المتدفقة من ملايين الحساسات والأجهزة.نقطة الضعف: الهشاشة الرقمية وخطر السيطرة الكاملةالخطورة الكبرى في هذا النموذج هي الاعتماد الكلي على الشبكات الرقمية. فعندما تكون الكهرباء، والماء، والمواصلات، والطوارئ، والأمن، جميعها متصلة بأنظمة رقمية موحدة، فإن أي خلل في هذه الأنظمة أو أي هجوم رقمي عليها قد يؤدي إلى شلل كامل في حياة المدينة.تخيل لحظة واحدة يتم فيها اختراق إشارات المرور، فتضطرب الحركة وتحدث حوادث قاتلة. أو يتم تعطيل شبكة الكهرباء فتغرق المستشفيات في الظلام، وتنقطع المياه عن الأحياء. أو تُصاب شبكة الاتصالات بخلل فتنقطع القدرة على التواصل في وقت طارئ.هذه ليست سيناريوهات من أفلام الخيال العلمي، بل وقائع حدثت بشكل جزئي في عدة دول خلال العقد الأخير، مثل هجمات “Stuxnet” و”NotPetya”، والتي شلت مؤسسات حيوية خلال ساعات.عندما تتفوق الآلة على البشر… وتتخذ القرار بمفردهافي بعض الحالات، يتم برمجة أنظمة إنترنت الأشياء لتكون قادرة على اتخاذ قرارات دون الرجوع للبشر. وهنا تكمن خطورة أكبر.ماذا يحدث عندما تقرر خوارزمية في غرفة الطوارئ أن الحالة ليست حرجة بناءً على تحليل بيانات خاطئ؟أو حين توقف محطة الكهرباء خدماتها “للصيانة الذاتية” في ذروة الحر؟أو عندما تعتبر أن كاميرا مراقبة رصدت سلوكًا “عدائيًا”، فتُطلق صافرات إنذار أو تُحرك الشرطة نحو شخص بريء؟إن المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في منح الآلات صلاحيات بدون رقيب بشري، أو دون وجود سيناريوهات بديلة تتيح للبشر التدخل السريع.عندما يُزرع الفايروس في قلب المدينةالسيناريو الكارثي يحدث عندما يتسلل فايروس رقمي – برمجي ذكي مصمم لإرباك الأنظمة – إلى شبكة إنترنت الأشياء في المدينة. وبمجرد أن يدخل، يبدأ في زرع الأوامر المدمرة، أو تعطيل الأوامر الحيوية، في سلسلة مترابطة من الأحداث.في دقائق معدودة، يمكن لهذا الفايروس أن:يعطل الإشارات الضوئية، ما يؤدي إلى فوضى مرورية.يوقف مضخات المياه، فتُغلق الصنابير فجأة.يشل المستشفيات الذكية ويعيدها إلى الوراء لعقود.يقطع الكهرباء ويعزل المباني الذكية عن العالم.يبعث برسائل إنذار كاذبة أو حقيقية تفزع السكان.يوقف الخدمات المصرفية ويشوش على البنوك.ومع كون كل هذه الأنظمة مترابطة، فإن الضرر لا يكون موضعيًا، بل شاملًا، بما يشبه “الجلطة الرقمية” للمدينة.التبعية الرقمية… خطر على السيادة والاستقرارفي بعض الدول، يتم استيراد نظم إنترنت الأشياء من شركات أجنبية عملاقة. وهذا يطرح سؤالًا حساسًا: ماذا لو قررت هذه الجهات قطع الدعم أو الوصول أو التحكم عن بُعد؟في حال عدم امتلاك الدول لكود البرمجيات والسيطرة الكاملة على الشبكة، فإنها تكون قد تخلت عن سيادتها لصالح “مزودي التكنولوجيا”، الأمر الذي يمثل خطرًا استراتيجيًا لا يقل عن الاحتلال الصامت.كيف نحمي مدننا من الخطر الرقمي المطلق؟الطريق ليس بإيقاف التحول نحو المدن الذكية، بل في جعله آمنًا، ومتوازنًا، ومدروسًا. وذلك يتطلب:1. إنشاء أنظمة احتياطية غير متصلة بالإنترنت، تعمل في حال الطوارئ.2. تطوير الكفاءات المحلية في مجال الأمن السيبراني بشكل مستدام.3. فصل الأنظمة الحساسة (الصحة، الطاقة، الأمن) عن الشبكة الموحدة، أو منحها جدر حماية مستقلة.4. التحقق من مصادر البرمجيات والتحكم المحلي الكامل بالكودات.5. **اعتماد استراتيجية “الاختبار الدائم” لشبكات المدن ضد الهجمات المحتملة.6. الرقابة البشرية الدائمة على القرارات الحساسة، وعدم ترك الأمر كليًا للذكاء الاصطناعي.ذكاء بلا حكمة = كارثةإن التقدم التكنولوجي حين يُدار بلا وعي، يتحول إلى خطر. والمدن الذكية، إن لم تُبنَ بحذر، تصبح مدنًا هشة قابلة للانهيار في لحظة صمت رقمي.المطلوب اليوم ليس فقط بناء شبكات ذكية، بل بناء عقول بشرية قادرة على حمايتها، وأنظمة محلية تتحكم بها، وقوانين تُلزم المطورين بالحفاظ على أمن الناس.إن ذكاء الأشياء يجب أن يُخضع لحكمة الإنسان، لا أن يحل محله.