الزعبي يطرح: استقرار الأردن بين التعامل مع الأزمات وإمكانيات الفرص في ظل التغيرات الجيوسياسية في المنطقة ـ بقلم: الأستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي

نظرًا للأهمية الجيوسياسية، والموقع الحيوي والموارد الطبيعية، كانت منطقة الشرق الأوسط عبر التاريخ محورًا رئيسيًا في الجيواستراتيجية العالمية. وعندما نعود الى الواقع الجيوسياسي ومن منظور الجغرافيا السياسية، والاحداث التاريخية الموثقة، تجد ان هناك الكثير من القصص التي تروى عن بيئة اختنقت بالخوف وبالعجز وبغياب الأفق، وهي شبيهة الى حد كبير في البيئة التي يشهدها الشرق الأوسط اليوم، والذي يضم أكثر من 400 مليون نسمة، 60% منهم تحت سن الثلاثين، ومنهم أكثر من 30 مليون لاجئ ونازح داخلي كنتاج للنزاعات المستمرة، وحيث لا تكمن المأساة في قوة العدو الذي يهدده بقدر ضعف التركيبة الداخلية لمجتمعة.لقد شهدت السنوات الأخيرة من هذا العقد احداث عظيمة، أحدثت تغييرات جوهرية في المسارات التقليدية، وكانت عناوينها (فلسطين، والربيع العربي، وسوريا، وإيران، ولبنان، واليمن، وغيرها) تعكس بشكل أساسي تطور الأوضاع في المنطقة، وترسم طبيعة النظام الإقليمي الذي سيتبلور في المستقبل القريب.ان مستقبل المسارات التي تخفي في طياتها سيناريوهات مختلفة، ما زال من المبكر الحكم أو التنبؤ حول أي منها سيصبح هو الواقع الجديد، ويعود ذلك الى خصوصية المنطقة، والترابط المجتمعي، المعزز بهويات عقائدية وسياسية عابرة للدول، وكثرة التقاطعات فيها.من هذه المسارات، الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والتي بدأت كنتيجة لإحداث 7/10/2023، ولم تنتهِ بعد، وتوسَّعت إلى لبنان واليمن، وسوريا، وإيران، وقد يتبعها إجراءات ضم الضفة الغربية من منطلق نظرية الدفاع الاستباقي، والتي قد تقود المنطقة الى انفجار جديد من الصعب توقع نتائجه. كما ان المراقب لا يستطيع ان يتنبأ بما سيخرج به المؤتمر الدولي المتعلق بالقضية الفلسطينية، والذي سيعقد في نيويورك هذا الشهر من نتائج، وهل هذه النتائج في حال تم التوصل اليها قابلة للتنفيذ، في ظل التحذيرات الامريكية الاخيرة.اما فيما يخص المسار السوري، وعلى الرغم من التوجهات بتقديم المساعدات، ورفع العقوبات واعادة ادماج سوريا في المجتمع الدولي، الا ان مخاطر الانزلاق للفوضى، وامتدادها الجغرافي ما زالت قائمة، ومهددة الاستقرار الإقليمي بكاملة.يضاف الى ذلك التطورات المتسارعة في الملف الإيراني، الذي انفجرت أزمته صباح اليوم 13/6/2025، وبقوة تدميرية لم تتوقعها ايران (وهي كما سبق وان اشرت في مقال سابق منشور بتاريخ 2/10/2024 تحت عنوان الكل مخترق والقادم اسواء، ومقال افول الهلال الإيراني بتاريخ 8/10/2024)، ومن الصعب التنبؤ الى اين ستتجه الأمور فيها، الا انها ستكون نقطة تحول كبرى في مستقبل المنطقة الجيوسياسي، وتحدد حجم الدور الإيراني في إعادة الهندسة الجيوسياسية للمنطقة، وبخلاف ذلك فان البديل سيكون على حساب التوسع في العمليات العسكرية لمواجهة طموحاتها والتهديدات الإرهابية وحماية الاتفاقيات الدولية والتي منها الاتفاقيات الأمريكية الخليجية الأخيرة، واتفاقيات السلام الضامنة لأمن إسرائيل، وبالتالي ستكون مهددة امن المنطقة بكاملها، ولها تأثيرات متشعبة على العلاقات الدولية والإقليمية في المستقبل القريب (السلام العالمي اصبح مهدداً اكثر من أي وقت مضى).الا انه لمن المتوقّع أن تستمرّ العوامل الجيوسياسية المتغيرة والاضطرابات في المنطقة (اعتقد بان الوضع الجيوسياسي لن يتبلور بشكله الجديد قبل ظهور نتائج الصراع الروسي الاوكراني) في التأثير على اقتصاد دولها، لا سيّما الدول صاحبة الاقتصادات الضعيفة، ومنها الأردن.ان الفجوة في الأداء الاقتصادي بين دول المنطقة والتي بدأت مع مطلع الألفية الجديدة وتفاقمت بعد الربيع العربي، قد تتسارع لصالح الدول الخليجية التي تتمتّع باستقرار سياسي ووفرة في الثروات وازدياد ملحوظ في المرونة المؤسسية، وقدرتها على الموازنة في العلاقات الدولية بين الدول العظمى.اما الأردن، فانه يمر بلحظة استراتيجية فارقة في ظل التحولات الجذرية التي تشهد إعادة توزيع خارطة القوى الجيواستراتيجية الشرق أوسطية، والتي قد تعيد رسم ملامح التوازن الإقليمي وتفرض عليه إعادة تعريف موقعه كدولة ارتكازية ودوره الجيوسياسي.على الرغم من هذه التحوّلات، الا ان الأردن وهو الناجي من احداث الربيع العربي (بسبب حكمة قيادته الهاشمية ووعي أبناء مجتمعه المؤمن بوطنه وبقيادته) وجد نفسه متعباً من الكثير من التحديات، منها الجيوسياسية، كالضغوط التي كانت تأتي من الحدود الشمالية كتهريب السلاح والمخدرات، والمليشيات، والضغوط الدولية لإعادة ترتيب الإقليم، خصوصاً في ملف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني (حيث تسعى إسرائيلي لتفريغ الأرض من سكانها)، وظهور اشكال جديدة من التحالفات الابراهيمية (التي إعادة تشكيل أولويات التمويل والاستثمار)، وكذلك بصمات الاضطرابات في الدول المجاورة، والتي ما زالت حاضرة، مما قد يؤدي الى استمرار صعود بعض القوى الايدولوجية والشعبوية، ويجعل منهما مصدر قلق الى حد ما. ويضاف الى ذلك تراجع العولمة وازدياد المنافسة والنزاعات الاقتصادية، وتنامي النفوذ والتجاذبات الخارجية لدول منها العظمى ومنها الاقليمية وذات المصالح المختلفة والمتقاطعة احياناً. كل هذه العوامل تجعل الأردن يجد نفسه يقف على مفترق طرق حرج في مثل هذه البيئة الاقليمية المضطربة.اما فيما يتعلق بالتحديات الداخلية، كارتفاع نسبة الدين العام والتي وصلت الى حوالي 43 مليار دينار، وتراجع في النمو الاقتصادي (2.6℅، لعام 2024)، وتراجع في المساعدات الخارجية (خاصة من الدول الشقيقة، والسعي لاستبدالها بنهج استثماري) والتي تشكل 10-15℅ من الموازنة، وهو الامر الذي جعل اقتصاده يعاني من تشوهات كبيره في بنيته الهيكلية.ان مثل هذا الوضع أدى الى ارتفاع نسبة البطالة (اكثر من 21%، منهم أكثر من 35% من الشباب)، وازدياد نسب الفقر، وتراجع في جودة التعليم، وشح في مصادر المياه، وغيرها من الأمور، التي تجعل حكومته تواجه تحدّيات متزايدة في إدارة مثل هذه الملفات، وفي ظل اتساع فئة الشباب الذين يزداد إحباطهم إزاء الفرص الاقتصادية المحدودة، التي تعترضها عقبات متعدّدة، مثل البيروقراطية وقلّة الاستثمارات في القطاعات الرئيسية (قد يؤدي الى ارتفاع في التذمر الاجتماعي)، مما يتطلب اجراء إصلاحات جذرية في الهيكلة الاقتصادية.وبالرغم من كل ما تمر فيه المنطقة من دخولها في قبواً مظلم ومتأكل، وعلى الرغم من ان البعض يرى بان الأردن يقترب من المنعطف الحرج، وتتآكل القيمة الجيوسياسية التقليدية له كنتيجة لتبدل مراكز التحالف والنفوذ، وان الخيارات تضيق امامه، الا اننا نؤمن بان الأردن، وان كان مرهقاً، فانه ما زال يمتلك فرصة ذهبية ليكون نافذة الإقليم ويعيد هندسة القبو، منطلقاً من قدرة قيادته الهاشمية في إدارة ملف السياسة الخارجية، بمنتهى الدقة والذكاء، والمحافظة على استقراره، وموقعه الجيواستراتيجي المميز، والذي يجعل منه فاعل إقليمي ويمنحه قدرة على المناورة لإعادة التموضع وتنويع التحالفات، ولعب دور في خفض التهديدات الأمنية وتقليل من مخاطر التهجير، ومكافحة الإرهاب بشتى اشكاله، ويزيد من فرصه التنموية.في حال نجح الاردن في إعادة التموضع متعدد المحاور، واستثمر موقعه الجغرافي وموارده البشرية (القائمة على أساس الكفاءة لا الولاءات لشخوص القيادات التنفيذية، وتعزيز دور بناء قدرات مهاراتها، عن طريق اجراء إصلاحات عميقة في هيكله التعليمي)، واجراء إصلاحات جوهرية في هيكلة مؤسساته، واعتماد الحوكمة الرشيدة القائمة على الشفافية والتمكين (ليس فقط عن طريق تغيير الأدوات، بل بتغيير النظرة الشاملة للإنسان الأردني) والانتقال من أسلوب إدارة الازمة (المستخدم منذ من عقود) الى إيجاد حلول جذرية للازمات (بعض النخب السياسية والإدارية غالباً ما تتبنى منطق التسكين في إدارة الأزمات بدلاً من حلّها، والمهم لديهم ان انهي دوري دون مشاكل، وهذا يجعلها مترددة في اتخاذ القرارات، وعلى العكس مما ينشر احياناً في الاعلام)، والاعتماد على ادارة التنمية الفعلية (الأفكار وحدها لا تكفي)، واجراء تعديلات جوهرية في سياساته الاقتصادية (يجب ان يتوجه الى إعادة البناء القائم على الإنتاج، وخاصة في مجالات الطاقة المتجددة، والغذاء وتكنولوجيا المعلومات، وان يكون مركز دعم لوجستي على المستوى الإقليمي كوسيلة لزيادة النفوذ) لتتناسب مع متطلّبات المرحلة الجديدة، في ظل التحولات السياسية المتسارعة التي تلعب فيها بعض الدول دوراً أكبر في صياغة النتائج.ان كافة الامور التي أشرنا اليها، سبق وان وجه جلالة الملك الحكومات المتعاقبة للعمل عليها، وقد كانت هناك بعض المحاولات من بعض القيادات لتنفيذها، الا انها لم تكن كنهج عمل مؤسسي متكامل، وعلى الرغم من سعي الحكومة لتحقيق اهداف المسارات الملكية الإصلاحية، الا انه ومع كل اسف كان وما زال البعض يمارس نفس الأساليب السابقة لأغراض دعائية ولتحقيق شعبويات مؤجلة.اننا اليوم بأمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى لاتباع نهج العمل المؤسسي المتكامل لحماية المصالح الأردنية الخارجية وتمتين بيئته الداخلية لتحقيق الرؤى الملكية لمستقبل الدولة الأردنية.