السعايدة يكتب: نحو تعزيز الوعي الوطني وتطوير التربية الوقائية الشاملة للتصدي للأزمات – بقلم: د. عامر عبد الرؤوف السعايدة

في ظل ما يشهده إقليمنا من توترات متصاعدة بين قطبي الصراع الإقليمي، إيران وإسرائيل، وما أسفرت عنه من حرب عابرة للحدود استخدم فيها الطرفان أجواء بعض الدول المجاورة دون اعتبار للأمن والسلم الإقليمي، يُطرح تساؤل جوهري حول الدروس التي يمكن أن نستفيد منها نحن في الأردن، بالنظر إلى موقعنا الجيوسياسي الحساس وتداخل أمننا الوطني مع قضايا الإقليم. ولا شك أن هذا التصعيد يمثّل لنا فرصة للتأمل العميق في أهمية تحصين الداخل الأردني، ليس فقط عسكريًا أو سياسيًا، بل أيضًا على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، والتربوية والتعليمية. فالدروس المستفادة متعددة الأبعاد، وتمتد من تعزيز الجاهزية الأمنية إلى ضرورة تفعيل التربية الوطنية الوقائية، وزرع الوعي العميق لدى النشء، خصوصًا أن المجتمع الأردني يتميز بتركيبته الفتية، ما يستدعي تركيزًا استثنائيًا على فئتي طلبة المدارس والجامعات.اليوم لم تعد التربية الوطنية مسألة شعارات ومعلومات تاريخية فقط، بل أصبحت ضرورة أمن قومي في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم والمنطقة. من هنا، فإن إدخال مفاهيم التربية الوقائية إلى المناهج المدرسية والجامعية بات أمرًا حتميًا، ويجب أن تُدرّس الأزمات الوطنية والإقليمية بشكل واقعي ومحايد، بعيدًا عن الاصطفافات الفكرية أو الطائفية، بهدف تنمية وعي الطلبة بخطورة التبعية والانقسام، وتعزيز انتمائهم للدولة كمرجعية جامعة وهوية ضامنة. وفي هذا السياق، لا بد من إدراج محتوى تعليمي يعالج سيناريوهات الأزمات السياسية والأمنية والطبيعية وحتى الإلكترونية، ويبيّن طرق مواجهتها والتفاعل معها بعقلانية ومسؤولية.وفي الإطار العملي، فإن التدريب على إدارة الأزمات لا يجب أن يبقى محصورًا في الكتب والمقررات النظرية، بل يجب أن يتجسد في برامج ميدانية ومحاكاة واقعية وتمارين وقائية، تُنفذ من خلال أنشطة مدرسية وجامعية ومجتمعية بالتعاون مع الدفاع المدني والأجهزة الأمنية ومؤسسات الطوارئ، لتشكيل فرق طلابية مدربة على مواجهة الكوارث، ونشر ثقافة الإغاثة والمسؤولية والتدخل السريع. كما ينبغي تفعيل معسكرات وزارة الشباب لطلبة المدارس، وتوسيع نطاقها لتشمل جوانب التوعية الوطنية، والانضباط، والعمل الجماعي، بما يتناسب مع مستجدات الإقليم واحتياجاته، فهذه المعسكرات يمكن أن تتحول إلى مختبر وطني لصناعة الشخصية الواعية والفاعلة، وليس فقط مجرد نشاط موسمي تقليدي.وإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة إلى إدخال برامج تدريب عسكري مدني لطلبة الجامعات أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى، ليس بهدف عسكرة التعليم، بل بهدف تأهيل جيل شاب يدرك أهمية الجاهزية، والانضباط، والدفاع عن الوطن، ويمتلك المهارات الأساسية في السلامة والطوارئ. ويجب أن تتم هذه البرامج وفق منهجية تراعي تطور مفهوم الأمن ليشمل الأمن المجتمعي والأمن السيبراني، والأمن البيئي، والصحة النفسية في الأزمات، وغيرها من القضايا التي باتت تؤثر على تماسك الدول وقدرتها على الصمود.وفي هذا السياق، يبرز الدور المركزي والمحوري للمركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات بوصفه الجهة الوطنية المرجعية في تنسيق الجهود الحكومية والمجتمعية في مجال الاستجابة والتأهب للأزمات. ومن الضروري أن يتم توسيع مظلة عمل المركز لتشمل بعدًا تربويًا توعويًا متكاملًا، بالتعاون مع الجامعات والمدارس ومؤسسات المجتمع المدني الوطنية، وذلك من خلال تبني استراتيجية شاملة للتربية الوقائية تُطبّق عبر المناهج، والأنشطة اللاصفية، وبرامج التوعية المجتمعية، ومحاكاة سيناريوهات الأزمات والتدريب المستمر. فالمركز بما يمتلكه من خبرات وطنية متراكمة، وقاعدة بيانات معرفية، وشبكة تنسيق ميداني مع الجهات المعنية، يستطيع أن يلعب دورًا رياديًا في بناء ثقافة مجتمعية قائمة على الوقاية والاستعداد، وليس فقط على الاستجابة والاحتواء. كما يمكن للمركز أن يكون حلقة الوصل بين المؤسسات الأمنية والتعليمية والمجتمعية لضمان توحيد الرسائل التوعوية، وتكاملها، وتوجيهها بشكل فعّال إلى الفئات المستهدفة، وخصوصًا الشباب.في الوقت الراهن نرى أنّ التصعيد بين إيران وإسرائيل لا يعني الأردن بشكل مباشر من ناحية عسكرية، لكنّه يعنينا كثيرًا من حيث استخلاص العبر، وتعزيز مناعة الداخل، والاستعداد لكل الاحتمالات. فالحكمة اليوم هي أن نحول التهديد إلى فرصة، والصراع إلى دافع لإعادة هيكلة منظومتنا التعليمية والتربوية والأمنية على أسس أكثر واقعية بما يتناسب مع إمكانياتنا. فمواجهة الأزمات لا تبدأ عند وقوعها، بل تبدأ بالتربية والوعي والتخطيط المسبق وتطبيق البرامج التدريبية التي تناسب طبيعة الديمغرافية والجغرافية لبلدنا. ومن هنا، فإن أمام الأردن فرصة تاريخية لصياغة نموذج وطني متكامل في التربية الوطنية الوقائية، والتعليم الأمني المدني، والاقتصاد المقاوم، والمجتمع المتماسك، بمشاركة جميع أطياف الدولة ومؤسساتها الرسمية والمدنية، لنبقى كما كنا دائمًا، دولة صامدة آمنة وسط منطقة مضطربة، ومثالًا في حسن إدارة الأزمات وبناء الأمل والحفاظ على الاستقرار.