البطوش تكتب: تحديات الوعي في عصر الحروب الذكية ـ بقلم: حنين البطوش

في الوقت الذي تتساقط فيه الصواريخ في سماء المنطقة وتشتعل فيه المواجهات بين القوى الكبرى، يظهر في مجتمعاتنا مشهد عبثي لا يشبه حجم الحدث ولا خطورته، تتحوّل لحظات التوتر إلى عروض تصوير وترفيه فوق الأسطح، حيث يتسابق البعض لتوثيق “لقطات الصواريخ” كأنهم يشاهدون ألعاباً نارية ليلة رأس السنة، بينما تتصدر المقاطع منصات التواصل في سباق محموم على المشاهدات والترندات، لاقتناص “اللقطة الذهبية”، وتنشط منصات التواصل في سباق محموم: من صوّر أكثر؟ من التقط المشهد الأوضح؟ من أطلق المقطع الأعلى تداولاً؟كل شيء يتحول إلى مادة استهلاكية في سوق الترندات الفارغة.في المقابل، تُدار المعركة الحقيقية في غرف عمليات متطورة، حيث تتحرك إسرائيل بمنظومات تكنولوجية معقدة، تدير الصراع من خلال الذكاء الاصطناعي والتحليل الاستباقي وإدارة البيانات في الزمن الحقيقي، شبابهم في مراكز التحكم يبرمجون الطائرات المسيّرة عن بُعد، يراقبون الأقمار الصناعية، ويتخذون قرارات لحظية عالية الدقة، بينما كثير من شبابنا لا يزال يتساءل بدهشة: “كيف يفعلون هذا؟”ليست أزمتنا في نقص التكنولوجيا فقط، بل في العقلية المنتجة لها، هناك من يستخدم الذكاء الاصطناعي لرسم مستقبل الصراع، حيث تتحرك الخوارزميات وتشتغل أنظمة التحليل التنبئي لتصنع القرار العسكري والسياسي لحظة بلحظة، وفي المقابل نقف نحن في الضفة الأخرى، أسرى ثقافة استهلاكية سطحية، نتلقف كل صورة غريبة أو مشهد مثير لنحوّله إلى مادة ضحك عابرة ومحتوى ترفيهي سريع يُستهلك في دقائق، ثم يُقذف في هوامش “الترند” دون وعي يُقرأ، أو تحليل يُبنى عليه، أو إدراك يُنتج فهماً أعمق لما تعنيه تلك الأحداث لمستقبل المنطقة.لقد تحوّلت ملفات الصراع الجيوسياسي الكبرى إلى محتوى تيك توك وفيديوهات كوميدية، بينما الحقيقة على الأرض تتجاوز هذا المشهد الاستهلاكي بكثير؛ إذ إن الحرب اليوم لم تعد مجرد تبادل نيران، بل معركة عقول ومراكز أبحاث وهندسة معلومات متقدمة ترسم عبرها القوى الكبرى خرائط المستقبل وتعيد تشكيل موازين القوة في المنطقة.الأخطر من ذلك، هو الاستهانة بالمعلومة نفسها؛ نتلقف العناوين دون تمحيص أو تحقق، ونحول النكبات إلى نكات والدمار إلى محتوى ساخر، حتى أصبحت غالبية الجمهور تعيش داخل فقاعة من الانفصال عن خطورة ما يجري فعلاً في محيطنا، وبدلاً من تفكيك الخبر واستقراء أبعاده، أصبحنا نتعامل معه كوجبة سريعة على موائد الترفيه الرقمي؛ نستهلكه لنملأ لحظات الفراغ لا لنفهم ديناميكياته،وفي عمق هذه الأزمة تغيب بنية التفكير الواعي، معركتنا الحقيقية معركة فكر، لا معركة عتاد فقط، نفتقد الوعي الاستراتيجي، والثقافة السياسية، والمسؤولية تجاه مستقبل المنطقة.لا يمكن تفكيك هذا المشهد دون التوقف أمام التحوّلات الجذرية في بنية الأسرة ودورها الأساسي كمنظومة تربوية يفترض بها أن تكون الحاضنة الأولى لبناء الوعي وتشكيل أنماط التفكير لدى الأجيال الناشئة، إذ في ظل الانزلاق الجماعي نحو الترفيه الرقمي الاستهلاكي، تحولت كثير من البيوت إلى مجرد امتدادات مفتوحة لمنصات التواصل الاجتماعي، حيث يتماهى الأبناء مع دوامة الترندات العابرة بلا رقيب معرفي أو مرجعية تربوية فاعلة تضبط هذا الانجراف المتسارع.الأكثر خطورة أن الأطفال والمراهقين باتوا لاعبين أساسيين في إنتاج هذا المحتوى الفارغ، مستغلين أدوات الإعلام الجديد في تكرار أنماط التحديات العبثية والمقاطع السطحية التي تعزز ثقافة الفراغ المعرفي، في غياب شبه كامل لدور الأسرة بوصفها الحارس الأول للوعي، والقادرة على رسم الحدود السلوكية والمعرفية التي تقي أبناءها من هذا الانهيار الجماعي للمعايير والقيم.المعركة الحقيقية اليوم هي معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح أو تكنولوجيا؛ فالأزمة الأعمق تكمن في بنية فكرية هشّة لجيل يرى أخطر صراعات المنطقة كعروض ترفيهية موسمية تُستهلك في دقائق، نعاني من غياب الوعي الاستراتيجي والثقافة السياسية والجيوسياسية، وانعدام الفهم العميق لديناميكيات الصراع، وتراجع الحس بالمسؤولية تجاه مستقبل المنطقة، وغياب ثقافة التحليل المنهجي والاكتفاء بالمعلومة السطحية السريعة الجاهزة للاستهلاك الفوري دون أي تدقيق أو فحص.خلاصة المشهد المؤلم إن الفجوة الأعمق اليوم ليست فجوة أدوات، بل فجوة عقول ووعي؛ ففي حين تُدار المعارك بخوارزميات متقدمة وذكاء اصطناعي يرسم تفاصيل الصراع بدقة، ينشغل البعض في مجتمعاتنا بتوثيق المشهد كعرض ترفيهي موسمي، وبينما ينتج الآخرون المعرفة والتكنولوجيا، ننتج نحن ضجيجاً استهلاكياً فارغاً، إنها أزمة عقل عاجز عن الفهم والتحليل والمشاركة الفاعلة في صناعة القرار، يتحوّل أمام أخطر أحداث المنطقة إلى متفرج مسحور بالمشاهد لا مدرك لأبعادها.ويبقى السؤال المؤلم معلقاً في عمق هذا المشهد:إلى متى سيبقى شبابنا غارقين في ترندات فارغة وتحديات عبثية، بينما ينشغل شباب العدو في المختبرات وصناعة أدوات الهيمنة عبر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؟ إنها فجوة مؤلمة بين جيل يستهلك بلا وعي، وجيل يصنع مستقبله بمنهجية ومعرفة.