البطاينة يكتب: الشرق الأوسط يتجه نحو واقع جديد.. عندما تكون إسرائيل الوحيدة في اتخاذ قرارات الحرب والسلام ـ بقلم: جهاد البطاينة

البطاينة يكتب: الشرق الأوسط يتجه نحو واقع جديد.. عندما تكون إسرائيل الوحيدة في اتخاذ قرارات الحرب والسلام ـ بقلم: جهاد البطاينة


في تطور غير مسبوق في طبيعة الصراع بالشرق الأوسط، تبدو إسرائيل اليوم كأنها ليست طرفًا إقليميًا فحسب، بل كأنها باتت “المحرّك المركزي” لكل ما يجري وما قد يجري في المنطقة، من التوترات الأمنية، إلى التغيرات الجيوسياسية، إلى قرارات الحرب والسلم. هذه ليست مبالغة إعلامية، بل قراءة هادئة للواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يكون. لأعوام طويلة، كانت إيران توصف بأنها “بعبع وشرطي المنطقة”؛ قوة تملك أذرعًا في كل مكان، من حزب الله إلى الحشد الشعبي، من الحوثيين إلى حماس والجهاد.لكن ما يحدث في العامين الأخيرين يشي بانقلاب كامل في هذه الصورة، لم يعد أحد يخاف من تهديدات طهران، لا في الخليج، ولا في إسرائيل، ولا حتى في بعض دوائر القرار الغربي وماشاهدناه بالضربات الاخيرة دلالة كبيرة على ذلك .اليوم باتت إسرائيل تتصرف وكأنها “الوصية على أمن المنطقة”، تُرسل طائراتها إلى العمق السوري والعربي دون عائق، وتغتال القادة الإيرانيين داخل الأراضي الحليفة، وتستخدم أدواتها الإلكترونية لاختراق الأنظمة المعقدة لأعدائها، بل وتتجرأ على استهداف أعلى مستوى سياسي في النظام الإيراني دون إعلان مباشر، وكأنها تقول: “من دوننا لا استقرار، ومعنا لا خطر”.التحول الأهم ليس فقط في “الجرأة العسكرية” الإسرائيلية المدعومة دوليا، بل في البنية التي تستند إليها هذه الجرأة: إسرائيل اليوم من بين الدول الخمس الأولى عالميًا في قدرات الحرب السيبرانية، وفي الذكاء الاصطناعي العسكري، وفي تطوير الطائرات المسيرة، وفي التنصت والتشويش والرصد الإلكتروني.في معادلة الشرق الأوسط الجديدة، لم يعد العدد هو المهم، بل من يمتلك “القدرة على شلّ الخصم قبل أن يتحرك”. وفي هذا المجال، تبدو إسرائيل في موقع لا يُقارن بأي من دول المنطقة، بما فيها تركيا وإيران مجتمعتين برغم التطور التكنولوجي التي وصلت لها تركيا وايران المعلن والغير معلن .في كل مرة تُستهدف إيران أو أحد أذرعها، ينطلق الإعلام الموالي للمنظومة الإيرانية بوعيد لا حدود له. ولكن، على الأرض، لا شيء يتغير،الردود غالبًا رمزية وجزئية، وربما لا تحدث أصلًا، لأن إيران لا تريد، بل لأنها لم تعد تستطيع تنفيذ رد يُعيد التوازن دون أن يُعرضها لضربة مضادة كما تم انهاء وجودها العسكري في سوريا ولبنان وربما في الداخل أيضًا خصوصا بعد انتخاب رئيس لبناني والإطاحة بنظام الاسد وتولي الأتراك زمام سورية بنظام سني جديد .هذا العجز ليس فقط نتيجة التفوق للإحتلال الإسرائيلي، بل أيضًا لانكشاف البنية الاستخباراتية الإيرانية التي أصبحت عرضة لاختراقات متكررة، سواء في الداخل أو عبر وكلائها وماشاهدناه في عملية البيجر لحزب الله وإسقاط طائرة الرئيس الإيراني واغتيالات الحرس الثوري شاهداً على ذلك .في خضم هذا التحول، بدأت دول الخليج إعادة قراءة المشهد، فبدلًا من خوض صراعات مفتوحة أو سباقات تسلح تقليدية، تبدو بعض العواصم العربية اليوم أكثر انفتاحًا على التنسيق الأمني التكنولوجي مع إسرائيل، ليس حبًا بها، بل لإدراكها أنها تمثل – واقعيًا – الضامن الوحيد أمام تغول إيران أو تمدد الفوضى بالمنطقة.التحالفات تتغير بهدوء البوصلة لم تعد دينية أو أيديولوجية، بل أمنية استراتيجية وفي هذا التحول، تُحرم إيران من ورقة “العدو الصهيوني” التي لطالما استخدمتها لتبرير تدخلها في كل ساحة عربية كما فعلت بسوريا ولبنان والعراق واليمن وغيرها .الولايات المتحدة ليست غائبة عما يجري، ولكنها أصبحت أقل رغبة في التدخل المباشر، واشنطن اليوم توزع أدوارها: لإسرائيل مهمة الردع المباشر، وللدول العربية مهمة التهدئة، وللأساطيل الأمريكية مهمة المراقبة من بعيد،أما أوروبا، فهي في حالة شلل استراتيجي بسبب انشغالاتها شرقًا (أوكرانيا) وداخليًا (الهجرة، الطاقة، السياسة).الصين وروسيا تراقبان بقلق، لكن دون أدوات حقيقية للتدخل، خصوصًا أن إسرائيل والدول الداعمة لها ليست طرفًا سهل الاستهداف في الحسابات الدولية.فهل نقف اليوم امام شرق اوسط جديد وتغيير بموازين القوة ،الجواب هو نعم، ولكن ليس كما تصورناه في اتفاقيات “السلام الشامل” أو “النهضة الديمقراطية” بل نحن أمام شرق أوسط جديد تحكمه القوة الذكية، والردع الفوري، والتحالفات غير التقليدية، الاحتلال الاسرائيلي ليس مجرد دولة قوية بل أصبحت جزءًا من “هيكل الضبط الإقليمي”.قد نرى مستقبلًا إعادة ترسيم حدود النفوذ لا على الورق، بل على الأرض. وقد تتغير أوزان القوى التقليدية كليًا.وربما الأهم، أن “الخوف من إيران” لم يعد هو المُحدد الأول للسياسات، بل “الثقة في قدرة إسرائيل على حسم أي تهديد” وردع المثلث والهلال الشيعي بالمنطقة.في الشرق الأوسط الجديد، لا أحد ينتظر البيانات الرسمية والمؤتمرات البالية كل شيء يُحسم في الجو، وفي الحرب السيبرانية، وفي الصمت الأمني. ما يحدث الآن هو أن إسرائيل لا تُفاوض على مكانتها، بل تفرضها.ومن لا يعجبه ذلك، عليه أن يغير أدواته أو يختفي من المشهد تماما، وفي ظل غياب مشروع عربي موحد قادر على موازنة هذا الزحف، تبقى المنطقة رهينة لمعادلة لا ترحم: من لا يمتلك أدوات الردع، لا مكان له في طاولة القرار.ومع ذلك، فإن الأفق ليس مغلقًا تمامًا، ثمة مشروع عربي قادم – وإن تأخر ظهوره – سيعيد صياغة المفاهيم، ويضع حداً للاحتلال، ويعيد للأمة توازنها.لكن حتى يحين ذلك، فإن الشرق الأوسط يدار اليوم بمنطق القوة الذكية لا بمنطق الشعارات، وبحسابات الواقع لا الأوهام.