الكردي تكتب: علاقة الأكراد بإسرائيل وإيران.. تنافس النفوذ واستراتيجية الغياب – بقلم: جوان الكردي

يبدو المشهد في المنطقة العربية، أو ما يسمى “الشرق الأوسط” اليوم، أشبه بلوحة رمادية التفاصيل، تتراكم فوقها طبقات من الغضب والعجز، الانتصارات والخسارات، الضعف والقوة، لكن بلا نهاية واضحة. في قلب هذه اللوحة، تدور الحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران، ليس فقط كصراع عسكري، بل كرهان وجودي لكلا الطرفين، وللمنطقة بأسرها.في ظاهر الصورة، تحققت لإسرائيل مكاسب ميدانية مهمة: تدمير قواعد إيرانية، إصابات مباشرة في مواقع حساسة، اختراقات في عمق الدفاعات، إظهار لقدرات استخبارية متميزة. لكن ما يخفيه هذا الانتصار السريع، هو غياب أي تصور جاد لكيفية تحويل هذا الإنجاز إلى واقع مستقر. وكأن المعركة جرى خوضها بدافع الغريزة، أكثر من كونها جزءاً من خطة استراتيجية مكتملة.إيران، رغم شدة وحجم الضربات، لم تنهزم. منشآتها النووية الأكثر تحصينا ما زالت قائمة، ولم تُستهدف بشكل فعلي، بدلالة تصريحات مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخيرة وتقييمه لحجم الأضرار، ما يُبقي الباب مفتوحا على احتمال الرد في أي لحظة، وهو ما اتضح في الأيام الأربعة الأخيرة لجهة حجم الرد الصاروخي بعد أن استوعبت الضربة وبدأت باستعادة توازنها.هذا لا يعني فقط فشلا إسرائيليا في تحقيق الهدف الأساسي، بل يعني أيضا أن طهران باتت تمتلك المبرر السياسي والشعبي لتسريع تطوير سلاحها النووي، تحت عنوان الرد على العدوان.في المقابل، الولايات المتحدة تخلت هذه المرة عن دورها التاريخي، ربما جزئيا أو آنياً، ككابح لتصرفات إسرائيل. إدارة ترامب فتحت الباب على مصراعيه، ومنحت الغطاء الكامل لنتانياهو، ليس فقط في غزة، بل في طهران نفسها.. تترك إسرائيل لتقرر أين تضرب، ومتى، وكم.لكنها أيضا للمرة الأولى، تجد نفسها أمام سؤال: وماذا بعد؟ وهو السؤال الأكثر حرجا وصعوبة، الذي لربما تقود الإجابة عليه إلى انفلات وفوضى يصعب ضبطها على مستوى الإقليم والعالم إذا تدخلت بشكل مباشر وواضح.أميركا ومعها الغرب الاستعماري، لن تترك إسرائيل وحدها في نهاية المطاف (لا نتحدث عن الشعوب هنا)، فهي قاعدتها المتقدمة في المنطقة العربية لحماية مصالحها. لكنها تخشى، وأظنها تتحسب جيدا لاحتمالات انفلات الأمور إلى حد يهدد جذريا جميع مصالحها في المنطقة وتدمر علاقتها بجميع حلفائها في المنطقة إن لم تضبط الأمور. ربما يفسر ذلك ما غرد به ترمب الإثنين حين قال: “في بعض الأحيان من المفيد ترك الأطراف تتقاتل لفترة”.حماس، رغم الخسائر، ما تزال تقاتل، ولا يزال القطاع أسير مطحنة حرب الإبادة والتجويع بلا أفق لليوم التالي بعد الحرب. حرب استنزفت المدنيين قبل المقاتلين، وأفقدت إسرائيل رصيدها الأخلاقي أمام العالم، وأحبطت مساعي التطبيع مع السعودية وسائر الدول العربية. حرب مستمرة منذ عشرين شهرا، ولا تلوح نهايتها في الأفق، بل تتجدد جبهاتها.في الداخل الإسرائيلي، المجتمع منقسم، متعب، خائف نصفه مع وثلثه يرفض، لم يعد الجميع يرى في استمرار القتال هدفاً وطنيا، بل عبئا. حتى النخبة السياسية والأمنية بدأت تظهر عليها علامات التململ والقلق، بعضها صامت، وبعضها يعارض علنا ويحمل نتانياهو مسؤولية الفشل. إسرائيل تقاتل على أكثر من جبهة، لكنها تفقد وحدة جبهتها الداخلية، وهذا أخطر من أي صاروخ إيراني.المهم، أن رئيس وزراء الإسرائيلي نتانياهو، الذي لطالما تغذى على فكرة البقاء في السلطة عبر الأزمات، يواجه الآن تحديا أخلاقيا وتاريخيا. أي مكاسب قد يحققها في إيران، تقابَل بخسائر سياسية في الداخل، وخسارة للتحالفات الخارجية.ولعل ما يرعب المجتمع الإسرائيلي، إضافة إلى النخب، أن ما اعتُيِر نصرا، بات يتحول إلى خسائر على جميع الأصعدة مع تواصل الرد الإيراني العنيف، وهو ما ينبىء عن خوف عميق من تهديد وجودي ربما كان هو مبعث العدوان على إيران، وليس فقط الرغبة في السيطرة وبسط النفوذ على الإقليم والمنطقة العربية.فالصراع في جوهر بالنسبة إلى طهران صراع على النفوذ، لكنه بالنسبة للكيان الصهيوني، هو حاليا وجودي لكيان ما يزال مرفوضا، على الأقل لدى الشعوب العربية والإسلامية، قبل أن يكون صراعا على النفوذ.عربيا، جميع الدول العربية تقف موقف المتفرج، وهو ما يعكس حجم الهشاشة التي يعانيها النظام العربي الذي بات يفتقر إلى أدنى حدود التضامن، في خضم انغماس كل دولة في قطريتها واندفاع الأنظمة الحاكمة للالتجاء إلى قوة إقليمية أو دولية تحميها في ظل افتقارها إلى الشرعية الشعبية.وهو ما فتح شهية باقي القوى الإقليمية (إسرائيل وإيران وتركيا) إلى التنافس على السيطرة والهيمنة على المنطقة في ظل غياب نظام عربي قوي ومتماسك.كلما طالت الحرب، ازداد ثقل السؤال الذي يخيم على الأفق: كيف ستخرج المنطقة من هذه الأزمة التي تزداد اتساعا؟لا أحد يملك الإجابة؛ فإيران قد تكون جرحت، لكنها لم تُهزم، وغزة باقية وكذلك المقاومة، و”الرهائن” لم يحرروا، والجيش منهك، والجبهة الداخلية متفسخة، والسردية التاريخية الصهيونية لوجود الكيان وشرعيته تهاوت والمجتمع الدولي أكثر نفورا من أي وقت مضى. إسرائيل بدأت حربا بلا استراتيجية خروج، وهذا في السياسة أخطر من الهزيمة.قد تحقق تل أبيب نصرا تقنيا، وقد تتباهى بالضربات، والإنجازات السريعة، لكنها حتى الآن لم تجب عن السؤال الأهم: كيف ستبني أمنا دائماً على أنقاض صراعات متواصلة؟ وأي سلام ممكن في ظل مشهد إقليمي يتآكل من الداخل، ويشتعل من الخارج؟ربما يكون الوقت قد حان، ليس فقط للبحث عن مخرج، بل لإعادة النظر في منطق القوة نفسه وفي أخلاقياته. والنظر إلى مظلومية الشعوب المقهورة، وهنا أتحدث عن الفلسطينيين بخاصة، والتيقن من أن اقتلاع شعب من أرضه وسلبه حقوقه وإبادته أمر لا يستقيم مع المنطق حتى منطق القوة.. هكذا علّمنا التاريخ.