الدكتور أجمل الطويقات: من إشراقة الثورة الكبرى إلى عظمة الدولة الأردنية

الاستقلالُ، والجلوسُ المَلَكيُّ، ويومُ الجيشِ، عناصرُ تتشابكُ في فضاءٍ مرجعيٍّ واحد، وتنبثقُ من رحمِ ثقافةٍ وطنيّةٍ موحَّدة، تشكِّلُ معًا نسيجًا روحيًّا متينًا يُعبِّرُ عن وحدةِ الانتماءِ والفكرِ في قلبِ الإنسانِ الأردنيِّ، الذي ما زالَ حيًّا بنبضِ الأرضِ، ومتجذِّرًا في تربتِها، نابضًا بولائِه لقيادتِه.لقد نظرَ الأردنيُّ طويلًا، وبعينٍ فاحصةٍ، إلى العلاقةِ بين هذه المناسباتِ الثلاث، فرآها لا تُقاسُ بالأيّامِ أو التواريخ، بل هي صيرورةٌ وطنيّةٌ تتعاظمُ في وجدانهِ كلّما تلاقتِ الذكرى بالمعنى، فغدتِ العلاقةُ بينهُ وبينَ ترابِ وطنهِ وقيادتِه الهاشميّةِ، علاقةَ انتماءٍ وتلاحمٍ وانسجامٍ، لا يعتريها انكسارٌ ولا خفوت.وتعمّقَ هذا الإحساسُ في وجدانِه، منبعثًا من الفكرِ القوميِّ الذي أُسِّسَتْ عليه الدولةُ الأردنيّةُ الحديثةُ، منذُ أن ارتفعتْ رايتُها الأولى مع الثورةِ العربيّةِ الكبرى، وقدومِ الملكِ المؤسسِ عبداللهِ الأوّلِ، ذاك الذي تلقّاهُ الأردنيّونَ بقلوبٍ متفتّحةٍ على الرجاءِ، وأذرعٍ متّكئةٍ على الحلمِ العربيِّ الكبير. فكبرَ الحلمُ، ونضجتِ العلاقةُ، وكانت الوحدةُ والتضامنُ العربيُّ جوهرًا لا شعارًا، وواقعًا لا أمنية.ولم يكنِ الأردنيُّ يومًا منغلقًا على ذاتِه، بل وجدَ في وحدةِ الدمِ والهمِّ مع شقيقِهِ العربيِّ صورةً من صورِ المجدِ الموروثِ، فلم يتردّد في أن يجتمعَ على ترابِ الأردنِّ الطاهرِ مع الشاميِّ والنجديِّ واليمانيِّ، حتى حينَ قلّتِ الإمكاناتُ، وشحّتِ المواردُ، وتهاوى التضامنُ العربيُّ تحتَ أقدامِ المصالحِ الضيّقةِ، وباتَ الاستعمارُ يطلُّ برأسِه من نوافذٍ جديدةٍ.وفي خضمِّ هذا التبدُّلِ الإقليميِّ والفكريِّ، انحرفتْ بعضُ الأصواتِ في دولٍ عربيّةٍ عن محرَّماتِ الأمسِ، فانفتحتْ على خطابِ التطبيعِ، وسعتْ إلى تقويضِ الثوابتِ، وأرادتْ الضغطَ على الأردنِّ وفلسطينَ للتنازلِ عن الحقِّ، وسطَ تهديداتٍ متكرّرةٍ من سياسيّي الكيانِ الغاصبِ، وتنصُّلٍ من الاتفاقاتِ، وسعيٍ دؤوبٍ لزعزعةِ الوصايةِ الهاشميّةِ على المقدّساتِ.غيرَ أنّ استقلالَ الأردنِّ لم يكنْ ثمرةَ صدفةٍ ولا منحةً مجانيةً، بل جاءَ بعدَ نضالٍ مريرٍ خاضتْهُ أجيالٌ متعاقبةٌ، ودفعتْ ثمنَه من دمِها وجهدِها، في مواجهةِ الاستعمارِ وأنيابِه، واحتلالِ فلسطينَ وجراحِها، فانبرى الأردنُّ في نضالٍ سياسيٍّ طويلٍ، اصطدمَ بعنجهيةِ المستعمِرِ، وغطرسةِ المحتلِّ، ولم تلِنْ لهُ قناةٌ.الاستقلالُ، يا سادةُ، ليسَ نشيدًا يُردَّدُ، بل هو سيادةٌ متواصلةٌ، وبناءٌ مستمرٌّ، وتحيةٌ خالصةٌ لتلكَ السواعدِ التي امتدتْ من عهدِ عبداللهِ الأوّلِ، فالملكِ طلالٍ، فحسينِنا الباني – طيّبَ اللهُ ثراهم – أولئك الذينَ وضعوا اللبناتِ الأولى لوطنٍ ما زالَ شامخًا، وما انكسر.إنّها ملحمةُ البُناةِ الذينَ قبضوا على البندقيّةِ بيدٍ، وبالأخرى رفعوا الفأسَ في وجهِ الصخرِ، فأخرجوا من قسوةِ الأرضِ وطنًا، ومن فقرِ الإمكانِ إنجازًا، ومن عتمةِ الطريقِ شمسًا، فكانوا رجالًا يُضاهى بهمُ المجدُ، وتُقاسُ بهمُ الرجولةُ.وفي قلبِ هذا الحقلِ العربيِّ المتقلِّبِ، ظلَّ الأردنُّ صامدًا، كما السنديانةِ العتيقةِ، تشتدُّ جذورُها كلّما عصفتِ الريحُ، بفضلِ قيادةٍ هاشميّةٍ حكيمةٍ، وشعبٍ اتّصفَ برشادِهِ، وتعلُّقِهِ بالقيمِ، واستقامتِهِ على دربِ الصوابِ.هي ذي مملكتُنا، تدخلُ عامَها التاسعَ والسبعينَ استقلالًا، وفخرًا، وامتدادًا لثورةٍ عربيّةٍ ما خمدتْ نارُها، ولا ذوتْ جذوتُها، ومعها نحتفلُ بأعيادِ العزِّ والفخارِ: الجلوسِ الملكيِّ، ويومِ الجيشِ، وذكرى انطلاقِ الثورةِ العربيّةِ الكبرى.وما أشدَّ خطأَ من ظنَّ أنّ الاستقلالَ يومٌ احتفاليٌّ فحسب، فالأردنيُّ اندفعَ مبكرًا إلى معركةِ التحريرِ والبناءِ، وأثبتَ أنّ الثورةَ العربيّةَ الكبرى كانتْ فصلَ الخطابِ، لا لحظةَ عابرةً، وأنّ الفكرَ القوميَّ الذي حمَلهُ الأردنيُّ منذُ قدومِ الملكِ المؤسسِ، لم يكنْ ادّعاءً، بل كانَ وجودًا يكتبهُ بالدمِ والعملِ والولاء.شتّانَ ما بينَ مَن يقيمُ في ظلِّ الكلامِ، ومَن يُقيمُ للحقيقةِ مقامًا، وها هو الوطنُ يزهو بكَ أيّها الجيشُ الباسلُ، في عيدِك الذي هو عيدُنا، ومجدُك الذي هو شرفُنا، مباركٌ لكَ ما أنجزتَ، ومباركٌ لنا بكَ، وبقائدِك، وبتضحياتِ رِجالكَ الأشاوسِ، رجالٌ طوّعتِ القِممُ لأقدامِهم، وانثنتِ الصعابُ لعزائمِهم.أنتم، يا أبناءَ الجيشِ، نسورُ الأعالي، ما دنوتُم، وما مِلْتُم، تسكنونَ الذرى، وترتحلونَ على جناحِ الرجولةِ والعفّةِ، وتتحزَّمونَ بالكرامةِ والشرفِ، فيكم من الأخلاقِ ما يُغني، ومن الخوفِ من اللهِ ما يُهذِّبُ، فأنتم زينةُ الرجالِ أدبًا وهيبةً، ومقامُكم بينَ الناسِ مقامُ الكبارِ، وقد زادَكم اللهُ جنا الأخلاقِ روحًا ونسيمًا.كنّا، وما زلنا، وسنبقى، نستندُ بعد اللهِ على جيشِنا المصطفويِّ، وعلى أجهزتِنا الأمنيّةِ الباسلةِ، تلكَ التي تذودُ عن حِمى الوطنِ، وتحمي المصالحَ، وتحرسُ الديارَ، فكانَ حبُّ الجيشِ مرآةً لحبِّ الوطنِ، ونواتُه الأولى زُرعتْ مع الثورةِ العربيّةِ، وتنامتْ مع الملكِ المؤسسِ، وغدتْ جيشًا عربيًّا خاضَ معاركَ الإنقاذِ عامَ 1948م، وارتقى بالتضحياتِ عامَ 1967م، ورفعَ رأسَ الأمةِ عاليًا في الكرامةِ الخالدةِ عام 1986، وأسهمَ في حربِ الاستنزافِ، وكانَ نِدًّا في معركةِ 1973م.إنّه جيشُ الحقِّ، واجه الظلامَ، والتبعيّةَ، والإرهابَ، وكانَ سيفَ العدالةِ في زمنِ الضياعِ.فذكرى الاستقلال، والجلوسُ المَلَكيُّ، ويومُ الجيشِ كم نؤمنُ بها، ليست ذكريات تُستعادُ، بل هي حقيقةٌ حيّةٌ تدفعُنا إلى العملِ والعطاءِ، ومواجهةِ كلِّ أشكالِ الفتنةِ والتفرقةِ، والتشبُّثِ بالوطنِ وقيمِه ومقدّراتِه.حفظَ اللهُ الأردنَّ، وحفظَ مليكَهُ عبدَاللهِ الثاني ابنَ الحسينِ، وأبقى رايتَنا خافقةً، وجيشَنا في عليائِه، ما دامَ فينا قلبٌ ينبضُ بالحياةِ.