البواريد يستعرض: من يسيطر على الولايات المتحدة؟ تداخل المصالح فوق منصة الدستور ـ بقلم: منصور البواريد

البواريد يستعرض: من يسيطر على الولايات المتحدة؟ تداخل المصالح فوق منصة الدستور ـ بقلم: منصور البواريد


في اللحظة التي أعلنت فيها هالة غريط، المتحدثة السابقة باسم الخارجية الأمريكية، استقالتها احتجاجًا على سياسات واشنطن في حرب غزة، انكشفت مرة أخرى البنية العميقة التي تحكم القرار السياسي في الولايات المتحدة. تصريحها لا يعبر عن موقف فردي بقدر ما يكشف جوهر النظام الأمريكي الذي طالما قدم نفسه كمرجعية للديمقراطية الدستورية، بينما تديره فعليًّا شبكة معقدة من المصالح والمراكز العابرة للمؤسسات. عندما طُلب منها تبرير (الإبادة الجماعية) في غزة، وتقديم الغطاء الأخلاقي للاحتلال غير القانوني، لم تكن هذهِ التعليمات نابعة من نصوص الدستور الأمريكي، بل من واقع أكثر تعقيدًا، واقع تُديره طبقات من القوى المتشابكة التي تحكم واشنطن من خلف واجهة الشرعية الانتخابية .. الرئيس في هذا النظام لم يعد المفسر الأعلى للدستور، بل أصبح أداة تحركها توازنات الأحزاب، وضغوط اللوبيات، ومصالح الصناعات الكبرى، وأجهزة البيروقراطية العميقة.إنَّ من يراقب مسار السياسة الأمريكية يدرك أنَّ السلطة لا تتركز في شخص الرئيس، بل تتوزع في شبكة نفوذ متعددة الرؤوس من خلال لوبيات الضغط السياسي مثل AIPAC، إلى الصناعات العسكرية العملاقة مثل Raytheon وLockheed Martin، ومن مؤسسات وول ستريت المالية إلى مراكز التفكير التي تصوغ السياسات قبل أن تصدر عن البيت الأبيض.ومن خلف الجميع تقف البيروقراطية الدائمة في وزارات الدفاع والخارجية وأجهزة الاستخبارات، تعمل وفق منطق مؤسسي يتجاوز الحدود الزمنية للانتخابات نفسها، فكل هؤلاء يشكلون طبقة السلطة الفعلية التي تحدد مسار السياسة الخارجية وفق معادلة المصالح لا المبادئ.هذه البنية العميقة ليست طارئة على السياسة الأمريكية، بل هي جزء من نمط مستمر منذ عقود، من غزو العراق عام 2003، الذي قام على تلفيق أدلة أسلحة الدمار الشامل، إلى دعم إسرائيل في اجتياح لبنان عام 1982، وفي كل مرة يقف الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن درعًا يحمي سياسات الاحتلال، مهما بلغت مناقضتها للقانون الدولي، عبر هذه المحطات يتكرس منطق يتجاوز كل خطاب رسمي عن الديمقراطية والعدالة والشرعية الدولية، لينتصر في النهاية منطق المصالح المعقدة التي تتحكم بقرار الحرب والسلام.وحين أرسلت واشنطن برقية دبلوماسية تحث الدول على مقاطعة مؤتمر الأمم المتحدة لحل الدولتين، مقرونة بالتهديد بعواقب دبلوماسية، فإنَّها لم تكن سوى إعادة إنتاج لهذا النمط ذاته، بإدارة العلاقات الدولية من موقع القوة الأحادية لا من موقع الشراكة القانونية. ففي هذه اللحظة تنكشف واشنطن لا كراعية للنظام الدولي، بل كمدير لشبكة ولاءات تُفرض على الدول عبر الترغيب والترهيب، بحيث تتحول مؤسسات الأمم المتحدة إلى أدوات تصادق على إرادة القوة لا على قواعد القانون الدولي.إنَّ أزمة غزة لم تكشف عن انحياز أمريكي تقليدي لإسرائيل وحسب، بل عمقت الشكوك العالمية حول مشروعية القيادة الأمريكية نفسها. إذ كلما تعاظم الانكشاف الأخلاقي والسياسي في هذه الملفات، كلما ازداد تآكل ما تبقى من شرعية النظام الأحادي الذي بنته واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة.فليس فقط الخصوم من يطرحون هذا السؤال اليوم، بل حتى بعض الحلفاء بدأوا يراجعون حجم استقلالهم الذاتي في مواجهة هذه الشبكة الأمريكية الضاغطة.لقد بات واضحًا أنَّ العلاقة مع واشنطن لم تعد شراكة ندية، بل خضوعا لمعادلة ممتدة، إما الامتثال لتوجهات القوة المركزية، أو مواجهة منظومة العقوبات والعزلة الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية. بهذا المنطق تتكرس الثنائية الكبرى في النظام الدولي الراهن من خلال منظومة تخضع لإرادة واشنطن عبر أدواتها المعقدة، ومنظومة أخرى تتشكل ببطء، تقودها قوى تحاول إعادة بناء التوازن الدولي بمنطق استقلالي بديل.استقالة هالة غريط لحظة رمزية في هذا المشهد؛ لكنها ليست سوى قمة جبل الجليد في مأزق أعمق، فمن يحكم القرار الأمريكي فعلًا؟ وهل هي مؤسسات الشعب والدستور؟ أم شبكات المصالح العميقة التي تتقاطع عندها القوة المالية والعسكرية والسياسية في معادلة نفعية بحتة؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال لم تعد ترفًا فكريًّا، بل ستحدد مصير النظام الدولي كله في العقود القادمة.