إيران مركز التوتر في المنطقة.. الطائرات المسيرة كبديل للنزاعات العسكرية الكبرى

إيران مركز التوتر في المنطقة.. الطائرات المسيرة كبديل للنزاعات العسكرية الكبرى

في فجر 14 أبريل من عام 2024 دوت صافرات الإنذار في تل أبيب، وعموم إسرائيل. وظهرت على شاشات أجهزة المراقبة الموزعة في أرجائها أسرابا من المسيرات والصواريخ ،خرجت مباشرة من إيران لتتخذ مسارًا واضحًا ومعلنا، نحو دولة الاحتلال.

جاء ذلك ردًّا على الهجوم على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق قبل سقوط نظام الأسد، وهو ما اعتبر حينها تغيرا مُعلنًا في قواعد الاشتباك بين الطرفين، وتوترا عاليَ المستوى في المنطقة، جعل العالم يترقب طبيعة الرد الإيراني.

وتعد هذه هي المرة الأولى التي تنطلق فيها ضربة مباشرة من إيران اتجاه إسرائيل وليس عبر وكلاء، كما اتضح من خلال محدوديتها حينها أن إيران لا تريد حربًا شاملة، بل تسعى لأن تنقل الصراع مع إسرائيل إلى درجة من درجات توازن الردع، دون التورط في صراع طويل غير مأمون العواقب، خاصة إذا ما قاد الهجوم إلى تدخل الولايات المتحدة الأمريكية طرفًا مباشرًا، وتضيّق في ذات الوقت من خيارات الرد أمام دولة الاحتلال.

وعلى الرغم من أن المشروع النووي الإيراني كان دائمًا خاطفا للنظر ومثيرا للجدل على صعيد الصناعات العسكرية وهو ما تعده اليوم إسرائيل الدافع الرئيس وراء هجومها الذي شنته صباح اليوم الجمعة، فإن ما حققه الإيرانيون في نطاقات أخرى يستحق اهتمامًا أكبر، وبشكل خاص إذا ما تأملنا سلاح المسيّرات إضافةً إلى برنامجهم الصاروخي، وهي الأسلحة التي يتوقع أن تُشكل العماد الرئيسي للرد الإيراني على الاستهداف المباشر على الأرض الإيرانية صباح يوم 13 يونيو الجاري والذي أدى لاغتيال عدد من كبار القادة العسكريين الإيرانيين وكبار العلماء النوويين.

فيما يتصل بالمسيّرات تمتاك إيران عددًا من المسيّرات بمدى يصل بها إلى حدود إسرائيل بل ويتخطاها، أشهرها “فطرس” التي تعمل ضمن نطاق الاستطلاع والمراقبة والقتال، وقد تم الكشف عنها في نونبر عام 2013، ويتراوح مدى تشغيل تلك المسيرة ما بين 1700 و2000 كيلومتر

أما مسيّرة “مهاجر-10” فتم الكشف عنها عام 2023 ويبلغ مداها التشغيلي 2000 كم، مما أنها تتخدم عددا من المسيرات الأخرى، وربما استخدمت جميعها في الرد الإيراني على دولة الاحتلال، لكن تحليل الصور الواردة والمعلومات القليلة المعلنة، يكشفان عددا محدودا من الطائرات المستخدمة.

من العلامات الفارقة في صناعة المسيرات الإيرانية، طائرة “شاهد-136” التي ظهرت في عدد من الصور وهي تنطلق من إيران إلى إسرائيل في الهجوم الذي تم في العام الفائت.

اكتسبت هذه الطائرة شهرة واسعة قبل هذا التاريخ، حيث استُخدمت خلال الأعوام الماضية (إلى جانب مسيّرات إيرانية أخرى) ضمن ترسانة القوات الروسية في الحرب على أوكرانيا، وأدت دورا بارزا في مساعدة الروس على استعادة زمام السيطرة داخل عدة مناطق اشتباك.

وخلال السنة الأولى من الحرب، اعتمد سلاح المسيّرات الروسي بشكل أساسي على طائرات خفيفة وصغيرة، منخفضة المدى وقدرة محدودة طيران محدودة، حيث وضع جنرالات الحرب أهمية محدودة للمسيّرات.

ولكن مع استخدامها ببراعة من قبل الأوكرانيين في المراقبة، والاستطلاع، وضرب الدفاعات، وقوات المشاة الروسية في مقتل، إلى جانب استخدام الأوكرانيين راجمات الصواريخ الأميركية هيمارس، ومدافع الهاوتزر الغربية، تبيّن للروس الذين كانوا يخوضون حربا تقليدية تماما خطؤُهم، فكانوا يتقدمون ببطء، بل وخسروا بعض المناطق التي كانوا قد سيطروا عليها.

تكيّف الروس مع تلك النتائج الصادمة بشكل ذكي ومرن، فأعادوا تشكيل تكتيكاتهم للتماشي مع الواقع الجديد؛ وفي هذا السياق طلبت روسيا من الصين مسيّرات متقدمة، ولكن الأخيرة تباطأت في الاستجابة نظرا لما يمكن أن يثيره ذلك من أزمة في العلاقة المعقدة مع الولايات المتحدة.

عند هذه اللحظة الفارقة من الحرب ظهرت إيران، التي كانت بحلول نهاية 2022 قد صنعت فئات متنوعة المدى والقوة والاستخدام من المسيّرات المسلحة، ووجدت فرصة مواتية لإرسال مسيّراتها لاختبارها في حرب فعلية، فضلًا عن أن ذلك سيقوّي علاقتها مع روسيا، في معسكر مضاد للولايات المتحدة.

بحلول الأشهر الأولى من عام 2023 كانت “شاهد-136″ جزءا رئيسيا من ترسانة الروس، دل على ذلك تصاعد وتيرة وشدة الهجمات في جميع أنحاء أوكرانيا، التي استطاعت شاهد من خلالها أن تُثبت جدارة واضحة في مهماتها لدرجة أن الروس عملوا على تطويرها إلى نسخة أخرى هي” شاهد-238″.

ومن أهم ما يميزها أنها رخيصة الثمن نسبيًّا، ففي عام 2022 تم توقيع عقد بقيمة 1.75 مليار دولار لشراء 6000 مسيّرة من “شاهد-136” إلى جانب الأجهزة والبرمجيات الخاصة بها. إذ عادة ما يصل سعر الواحدة منها إلى 50 ألف دولار كحد أقصى، كما أنها تعمل في ذات الوقت على استنزاف موارد الطرف الآخر، إذ تضطر شاهد الأوكرانيين إلى استخدام أنظمة دفاعية متطورة لإيقافها، ويكلفهم ذلك أكثر بكثير من تكلفة المسيّرات، وهذه نقطة تفوق هامة لهذه الأسلحة الطائرة.

وتصنف “شاهد-136″، مسيرة الانتحارية، تنطلق من قاعدة أرضية ثم تستمر في الطيران حتى تصل إلى مسافة محددة من الهدف، ثم تبدأ التسكع أعلى منطقة الهدف وقتًا ربما يصل إلى ساعات، وحين تحدده تلقي بنفسها عليه كصاروخ. فالدور الرئيسي لهذه المسيّرة هو مهاجمة الأهداف الأرضية الثابتة التي عادة ما تكون إحداثياتها معروفة، لكنها ليست فعالة في ضرب الأهداف المتحركة.

ومن حيث مواصفاتها التقنية، تتسم مقدمة المسيرة برأس حربي شديد الانفجار يتراوح وزنه ما بين 36 و50 كغ، وتتفوق قدرتها الانفجارية على قذيفة مدفعية عيار 155 ملم.

وتُطلَق شاهد عادة في صورة سرب من الطائرات، وبذلك فإنها تتمكن من مراوغة منظومات الدفاع الجوي لتصل إلى الهدف، أو على الأقل تضطر تلك المنظومة إلى استخدام صواريخ اعتراضية أغلى ثمنًا من المسيّرات، وغالبا ما تنجو مجموعة من الطائرات لتحقق الهدف النهائي المرجوّ.

تاريخ قصير لمشروع المسيّرات الإيراني

تعود كلمة السر وراء تطوير صناعة المسيّرات الإيرانية، إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث فُرضت على إيران حزمة من العقوبات الدولية أثرت بقوة على جيشها، فلم يعد بإمكانه تطوير ترسانته العسكرية ومن هنا سعت طهران للاستفادة من البدائل الرخيصة التي يمكن تصنيعها محليًّا.

طوّر الجيش الإيراني قدرةً بحرية تعتمد على بناء عدد كبير من القوارب الصغيرة المسلحة ببنادق وصواريخ دقيقة -قدر الإمكان- ليجد موطئ قدم في مواجهة البحرية الأميركية ذات السفن السطحية الكبيرة، وهي ذات الإستراتيجية التي تتبعها روسيا الآن مع قواتها البحرية، خاصة في ظل قدرة موسكو على تطوير صواريخ عالية الدقة، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، التي تسعى إيران لامتلاك التكنولوجيا الخاصة بها حاليًّا.

وفي هذا السياق، بدأت إيران الاستثمار في المسيّرات الحربية. ففي عام 1985 انطلقت المسيرة “مهاجر-1″، بعد تفعيل برنامج هندسي بحثي انطلق من الجامعات الإيرانية، كان لها جسم أسطواني ضيق، وأذرع خلفية مزدوجة، وأجنحة مستقيمة مثبتة عاليًا في الجزء الخلفي من جسم المسيّرة، وحملت كاميرا ثابتة مع فيلم فوتوغرافي. حاولت إيران تسليحها بصواريخ من طراز “آر جي بي” لكن لا توجد دلائل على نجاح هذه المحاولات.

وفي حرب الخليج الأولى، استخدمت “مهاجر-1” للتصوير بشكل أساسي، بغرض التصوير الفوتوغرافي لتصحيح توجيه أنظمة المدفعية وضربات الطيران، وكان من السهل التشويش عليها. بعد ذلك بدأت تجربة المسيّرة “أبابيل-1” في العام التالي، وقد استُخدمت للتجسس على التحركات والمواقع العراقية.

وفي عام 1988، تمكنت البحرية الأميركية من إلحاق أضرار بالغة بالترسانة الأساسية للقوات الجوية والبحرية الإيرانية، فيما عد وقتها أكبر اشتباك بحري سطحي منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تطور الأمر إلى تطبيق عقوبات اقتصادية كبيرة، أصبحت المسيّرات معها أفضل فرصة للمهندسين الإيرانيين، خاصة أن تهريب القطع العسكرية الكبيرة أمر يمكن رصده.

ولكن تهريب مكونات إلكترونية أصغر للمسيّرات أسهل بكثير، والأهم من ذلك أن عددا من المكونات التي تدخل في صناعة المسيّرات ليست عسكرية أصلًا، بل يمكن أن تجدها في عالم الأجهزة الإلكترونية، من الألعاب إلى الهواتف الذكية، ولذا يسهل الحصول عليها.

وفي عام 1990 خضعت “أبابيل” لإعادة تصميم جوهرية، ويتم حاليًّا تصنيع النموذج الأوّليّ منها بواسطة الشركة الإيرانية لصناعة الطائرات، وهي شركة يتولى الحرس الثوري الإيراني إدارتها.

في البداية، كانت أبابيل تعمل ضمن خط الرؤية الخاص بمحطتها الأرضية، الذي يصل عادة إلى بضع عشرات من الكيلومترات.

أما اليوم، فيصل مدى طائرة “أبابيل-5” التي كُشف عنها في أبريل 2022، إلى 480 كيلومترًا.

وإضافة إلى ذلك، يمكنها حمل أربعة صواريخ موجهة مضادة للدبابات من سلسلة “الماس”، التي يصل مداها إلى 8 كيلومترات، أو ست قنابل دقيقة التوجيه من سلسلة “القائم”، ويصل مداها إلى 6 كيلومترات. وتستخدم هذه النسخة في مهام الاستطلاع والمراقبة، وفي الأنشطة القتالية ذات المدى المتوسط.

على مدى أكثر من 20 عاما، كان الاستثمار البحثي الإيراني يدور فقط حول الطرازين السابقين، ثم شهد عام 2009 تطورا مهما على مستوى صناعة الطائرات المسيّرة، إذ طورت إيران نموذج “كرار” الأوّليّ، وهي مقاتلة بمدى يصل إلى ألف كيلومتر، قادرة على إطلاق صاروخَي كروز من طراز “سي-705” أو حمل قنابل موجهة بوزن 250 كيلوغراما، ثم أصبحت إيران بعد ذلك تُصدر فئات المسيّرات بوتيرة متصاعدة حتى وصلت الآن إلى قرابة 15 فئة (بحسب الإيرانيين)، بعضها صدرت منه نماذج عدة وبعض آخر استمر في نموذج رئيسي واحد.

تنوعت تلك الفئات في الارتفاع والمدى والدقة وطبيعة المهام المنوطة بها، فبعضها صُمم للاستطلاع والمراقبة وبعضها للقتال كالطائرات الحربية، وهناك المسيّرات التي تعمل في نطاق التشويش الراداري، والمسيّرات الانتحارية، وتلك المتعددة المهام، التي تعمل في المراقبة والاستطلاع إلى جانب المهام القتالية.

في هذا السياق أعلنت الحكومة الإيرانية في أبريل 2016 أنها قامت بتحديث طائراتها المسيّرة للاستفادة من تقنية نظام تحديد المواقع العالمي، ومع استخدام مثل هذه الأنظمة، لا يتمكن القادة العسكريون فقط من الحصول على رؤية أفضل بكثير في مجريات المعارك بالمسيّرات، بل يصبحون أيضًا قادرين على التواصل بشكل أفضل مع المسيّرات وتوجيهها بدقة أكبر إلى أهدافها.

خلال تلك السنوات تبين للإيرانيين أن هناك فائدة مهمة للمسيّرات داخليا، فبسبب الطبيعة الجبلية الوعرة في إيران، وبالتبعية صعوبة تنقل القوات الأمنية، ومع وجود اضطرابات في بعض المناطق الحدودية مثل إقليم بَلُوشِستان الجاف الممتد بين إيران وباكستان وأفغانستان، كانت للمسيّرات أهمية كبيرة داخليًّا في نطاق المراقبة والاستطلاع.

بالطبع فإن قدرات المسيرات الإيرانية لا تقارن حتى الآن بمنتجات الولايات المتحدة الأميركية في نفس النطاق، ولا تزال لديها أخطاء في الدقة. لذا، فعادة ما تنطلق الطائرات المسيّرة الإيرانية في صورة أسراب لتقليل احتمال الخطأ -قدر الإمكان- في مواجهة أنظمة دفاع جوي متقدمة، كما أنها لا تزال غير قادرة على الدفاع عن نفسها، مع صعوبات تواجهها في ظل تقلب الأحوال الجوية.

لكن من المؤكد أنها تتطور يومًا بعد آخر وبتسارع مناسب، والمهم في هذا السياق بالنسبة للإيرانيين أنها أصبحت بالفعل تساعدهم في خطتهم الكبرى، وهي بناء منظومة عسكرية يمكنها خوض حرب غير متكافئة مع عدو متقدم عسكريا.

إستراتيجية طهران

تعرف الحرب غير المتكافئة بأنها تلك التي تقع بين متحاربين تختلف قوتهما العسكرية أو إستراتيجيتهما أو تكتيكاتهما بشكل كبير؛ مما يؤدي بكل طرف منهما إلى استغلال نقاط الضعف لدى الآخر، وعادة ما يشتمل هذا النوع من الحروب على تفاوت في القوة بين الجهات المتحاربة، وهنا تختار الجهات الأضعف محاربة الجهات الأقوى عبر إستراتيجيات غير مباشرة، أو تستخدم تقنيات عسكرية مختلفة، أسهل في التنفيذ بالنسبة لها، وأعظم في الأثر في سياق مهمات محددة.