من دراسة نقدية للعقل العربي إلى انطلاق حرية العقل العربي

من دراسة نقدية للعقل العربي إلى انطلاق حرية العقل العربي

أن تتفاءل وتحلم بغدٍ أفضل هو حقك، لكن التفاؤل وحده دون إدراك الأشياء على حقيقتها قد يصدمك كثيرا. وأن تتشاءم من الواقع هو حقك أيضاً، لكن دون لمسة تفاؤل قد تصاب بإحباط يقتل حياتك. لهذا قال المُفكر والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي: “يجب أن يكون عندنا تشاؤم الواقع، ولكن مع تفاؤل الإرادة”. فالمُتأمل في طبيعة الأمور ومآلات الأشياء في وطننا العربي، يحس بغُبن كبير وألم أكبر، يشعر أن مستقبلنا المُشرق الذي ننتظره ونحلم به جميعاً، هو كصخرة سيزيف، وأن لعنة النكوص هي قدرنا الجمعي.

ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا، فلماذا يصير الاتحاد استثناءً والفُرقة أصلنا؟! ولماذا يُسترخص الدم العربي ويُراق لأجل نعرة طائفية أو مذهبية لم يعد لها مكان في زمن الحداثة إلا بيننا وبعض أشباهنا؟! وكيف يُهان العقل العربي في كل أرجاء العالم مع أن فيلسوفنا العربي ابن رشد أوصانا قبل حوالي 800 سنة في كتابه “فصل المقال” بأن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي؟!

كل هذه التساؤلات التي ذكرناها، والتساؤلات التي لم نذكرها ـ والتي قد تتطلب منا كتابا نستعرضها فيه وليس مجرد مقالة تحاول ملامسة الأهم قبل المهم، وعرض المفاهيم والمتطلبات الكبرى ـ توحي أن هناك غائبا ومهمة مُغيبة. كانا عبر التاريخ، ومن خلال كل المحطات الأساسية للإنسانية، بمثابة الخيط الرابط بين كل حلقات التطور والتحديث: إنهما الفكر ومهمة التفكير؛ مُحركا التاريخ؛ وواصلا الحضارات بعضها ببعض؛ رابطا الأمس باليوم؛ والحاضر بالمستقبل.

الفكر: منقذ الأمم ومُحرك الحضارات

الفكر هو منقذ الأمم من الضياع والتفكك؛ ومُخرج الإنسانية من رهاب الظلام إلى رحاب النور. الفكر له تاريخ طويل مع المعاناة والآلام ولحظات الانكسار الطويلة، ولكن نحو إطلالة الفجر وعدالة المنطق ونُصرة المظلوم.

الفكر الذي نتحدث عنه هو ما نحتاجه لتجاوز الكبوات والسقطات والمطبات المتتالية. هو ما نحتاجه كي تُستَرجع الإنسانية المسلوبة، وأحلام الشعوب العربية الضائعة؛ هو ما نحتاجه كي يكف السياسي المُتاجر بآمال هذه الشعوب عن ممارسة لعبة العودة الأبدية، ليس كما يؤمن بها أتباع بوذا، بصفاء ونقاء الروح العائدة، ولكن تعود روح هذا السياسي بمسخ وخُبث أكبر.

الفكر هو منقذنا من أيادي الغدر، التي تجتاح العقول لتغتال صوتها والمنطق فيها، وتشعل عنجهية وظلام الجاهلية الأولى. بالتفكير والمفكرين، وليس بالتكفير والمكفرين؛ أكيد سنصير ما نريد، وسنرفع لعنة التمزق عن جسد وطننا العربي، دون عصبية قومية أو نرجسية عرقية تقضي علينا كما قضت على (نرسيس) المُعجب بنفسه في الأساطير اليونانية. ما نقصده ألا نُهمش الأقليات كالأمازيغ والأكراد الذين قد يشتركون معنا في الدين والانتماء للأرض، ولكن يختلفون في لغاتهم وبعض عاداتهم عنا. ينبغي إعطاؤهم كامل حقوقهم سواء السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية أو الثقافية، وهذه الحقوق الأخيرة المتعلقة بالثقافة والهوية هي أهم ما ينبغي استنباته وزرعه بعناية داخل مخيلة ووجدان الفكر العربي، فالجغرافيا والتاريخ والمستقبل يجمعنا، فلا سبيل إلى الازدهار والسلام والوحدة، سوى بمراعاة الاختلاف وضمان الحق فيه، هذا ما سيجعل الإنسان العربي يعيش الحياة، وليس الموت أو العيش في انتظاره.

نحو تحرُّر العقل العربي: مهمة لم تُنجز بعد

مخاض التغيير الذي يعيشه الوطن العربي، وخصوصاً في بعض بقاعه، كان ينبغي أن يكون أولاً في عقول صانعيه، حتى يُؤمَن للتغيير مساره الديمقراطي، ولا يسقط الناس في إعادة إنتاج ما كانوا بالأمس القريب ألذ معارضيه. فقد قال شاعرنا المتنبي قديماً:

> الرأي قبل شجاعة الشجعان …. هو أول وهي المحل الثاني>

الأحلام الكبيرة تحتاج إلى عقول كبيرة، ليس في حجمها؛ ولكن في مدى قدرتها على البحث عن الحلول للإشكالات الراهنة. ونعتقد أن محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، ومحمد أركون قد رسموا الطريق نحو تحرر العقل العربي وأصابوا تشخيص علله، عبر التنقيب في تاريخ تشكل الوعي العُروبي وأسباب تخلف الأمة العربية عن اللحاق بركب الأمم المتقدمة.

هؤلاء الأعلام الثلاثة وغيرهم دشنوا لمحطة مضيئة في تاريخ الفكر العربي، والتي لا شك محطة مفصلية في تاريخ نهضة العقل العربي. رغم كل الاتهامات والمزايدات التي قيلت في حقهم، إلا أن التاريخ أكيد سينصفهم، فهم قطعوا مع استنساخ الفكر والتجارب، وأعلنوا مشروع نقد العقل العربي كمحطة أولى، فاتحين الطريق لمشروع أكبر وأضخم، هو مشروع تحرير وتحرُّر العقل العربي. وهو ما يُنتظر منا أن نبدأ فيه ونفهم الإشارة، فالمهمة غير منجزة، ولن ينفعنا التقوقع ولا الهروب إلى الأمام أو إلى الوراء، إذا ما أردنا فعلاً ألا نُخطئ مجددا موعدنا مع التاريخ، ونزيد من محنة العقل العربي!