ما سبب عدم حصول “وسيط المملكة” على التقدير المناسب من البيئة المؤسسية المحيطة به؟

ما سبب عدم حصول “وسيط المملكة” على التقدير المناسب من البيئة المؤسسية المحيطة به؟

صدر خلال الأشهر الأخيرة بالجريدة الرسمية “التقرير السنوي” لوسيط المملكة عن سنة 2023. وهو إن كان يحتفي بمنجز المؤسسة خلال السنوات الأخيرة على مستوى تفعيل صلاحياتها كاملة، وتحسن مستوى تجاوب الإدارة العمومية مع توصياتها، وارتفاع مؤشر جدية التشكي والتظلم أمامها، إلا أن التقرير لا زال يسجل وجود ما أسماها بظاهرة “التعنت التدبيري” الذي تبديه بعض الإدارات، بلا مبرر موضوعي، في مواجهة ما تصدره هذه المؤسسة الدستورية من توصيات بخصوص العديد من القضايا والملفات. وهي ظاهرة تعكسها على كل حال الاحصائيات المضمنة بالتقرير، والتي تشير إلى أن التوصيات موضوع التتبع خلال الفترة (2019-2023)، والبالغ عددها 1420 توصية، لم ينفذ منها سوى 242 توصية، أي بنسبة 17.04%. فقط. وهو ما يظهر استمرار عدم التفاعل الجدي للإدارة العمومية مع مؤسسة الوسيط على هذا المستوى، كما تشير إلى ذلك خلاصات التقرير السنوي الأخير الصادر عن مؤسسة الوسيط. ومن زاوية أكاديمية، يسعدني أن أقدم بعض العوامل الموضوعية التي قد تساعد على تفسير غياب الاعتبار اللازم لدور “الوسيط” داخل محيطه المؤسسي.

أولا- عزلة “وسيط المملكة” داخل البنية المؤسسية للدولة المغربية

انتقل المغرب سنة 2011 في مجال الوساطة الإدارية، من نمط يجد جذوره في تاريخ الدولة المغربية، هو مؤسسة “ديوان المظالم”، إلى نموذج آخر يستلهم التجربة الغربية ويحاكيها، وهو نموذج “الوسيط”. وقد ترتب عن هذا التحول فصل المؤسسة الجديدة عن البلاط الملكي، والاعتراف لها دستوريا بصفة “المؤسسة الوطنية المستقلة”. وذلك، انسجاما مع مبادئ “لجنة البندقية” التي تعتبر استقلالية مؤسسات الوساطة، من المعايير الأساسية لضمان حيادتيها عند النظر والبت في تظلمات المواطنين الذين يشتكون من تعسف الإدارة العمومية. غير أن الاستقلالية العضوية التي منحها الدستور للوسيط أدت إلى إضعاف موقعه، ما دامت لم تراعي خصوصية المنظومة المؤسسية للدولة المغربية. ذلك أن عزل الوسيط عن المؤسسة الملكية، بما لها من ثقل قانوني وسياسي و رمزي، جعل الحكومة والبرلمان يتجاهلانه خلال الفترة التي تلت ذلك. كما أن عدم ارتباطه بأي من المؤسسات الدستورية الثلاث، جعل كلا منها يتحرر من أي التزام قانوني أو أخلاقي اتجاهه. فالحكومة لا تستشيره أثناء إعدادها لمشاريع النصوص القانونية والتنظيمية كما هو منصوص عليه في الدستور. كما أن البرلمان لم يسمح له في العديد من الحالات بتقديم خلاصات تقاريره السنوية ومناقشتها في العديد من المناسبات، رغم مراسلة الوسيط لرئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين في الموضوع . يضاف إلى ذلك، أن الاعتمادات المالية المخصصة لوسيط المملكة، تظل رهينة قرار الحكومة والبرلمان بمناسبة إعداد الميزانية السنوية للدولة. وهي على كل حال اعتمادات ضعيفة، لا تسمح له بممارسة صلاحياته بالكفاءة والفعالية المتطلبة، على الرغم من قيام مسؤولي المؤسسة المتعاقبين بمطالبة الحكومة بشكل متكرر، من دون جدوى، بالرفع من الموارد المالية للوسيط. 

و تجب الإشارة هنا، إلى أن هذا الأمر، قد كان له، من بين أمور أخرى، تبعات كبيرة على المكانة الاعتبارية لوسيط المملكة في علاقته بالإدارة العمومية، ما دامت قد تحررت من أي ضغط سياسي يجعلها تنصاع لتوصيات واقتراحات المؤسسة بشكل خارج عن إرادة و رغبة المسؤولين الإداريين داخلها.

ثانيا-  تجريد “وسيط المملكة” من أدوات السلطة العامة

تحظى فكرة الوساطة المؤسسية، كما أنتجتها التجربة الغربية بجاذبية نظرية، مرتبطة أساسا بصلابة الأسس المعيارية التي تستند إليها، مثل إحقاق الحق والعدل والانصاف في مواجهة السلطات العمومية. غير أن الذي يعطيها معنى وجوديا، هي الوسائل المادية المسخرة لها. فهي الكفيلة فقط بتجسيد هذه الفكرة من عدمه من الناحية العملية. بالنسبة للقانون رقم 14.16 المتعلق بمؤسسة الوسيط، فالملاحظ أنه لم يمنحه الوسائل الفعالة للقيام بأدواره الطموحة. فهو لا يعتبر سلطة عامة قادرة على إصدار قرارات ملزمة اتجاه مخاطبيه داخل المصالح الإدارية.  فالمشرع لم يمنح وسيط المملكة سوى صلاحية إصدار توصيات واقتراحات، في حين ترك مسألة الامتثال لها رهينة بإرادة أصحاب القرار داخل الإدارات المعنية. وهو وضع ينسجم على كل حال مع النعت الذي اختاره الدستور لوسيط المملكة، حينما وصفه “بالمؤسسة الوطنية المستقلة”. فهو ليس “بالسلطة الإدارية المستقلة” مثل مجلس المنافسة أو الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. وقد كان لهذا التوجه الدستوري و التشريعي الأثر الكبير على فعالية دوره على مستوى الوساطة بين الإدارة العمومية والمرتفقين. فالمراقب لمسار تجربة مؤسسة الوسيط، يلحظ أن حجم تفاعل المصالح الإدارية مع توصياته لا يرقى إلى المستوى المطلوب كما تشير إلى ذلك التقارير السنوية الصادرة عن المؤسسة.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه إذا كان منح السلطة العامة لمؤسسة الوسيط في علاقته بمحيطه، قد يجعله وظيفيا جزءا من جهاز الإدارة العمومية الخاضعة لرقابة القضاء الإداري، فإن الأمر كان يفرض على الأقل سن تدابير قانونية موازية، كما في بعض التجارب المقارنة، مثل إسبانيا، التي تقر عقوبات إدارية و جنائية على المسؤولين الإداريين الذين يتجاهلون بدون مبرر توصيات “المدافع عن الشعب”.  وذلك، حتى تتفاعل الإدارات بالجدية اللازمة مع ما يصدر عن وسيط المملكة من توصيات ومقترحات لحل المشاكل العالقة بين الإدارة والمرتفقين.

ثالثا- التأويل المتدهور لوظيفة “وسيط المملكة”

الوساطة المؤسسية لا تعني من الناحية العملية الحياد، خصوصا عندما يكون الأمر بين طرفين غير متساويين من الناحية القانونية والواقعية، كما هي حال العلاقة بين الإدارة العمومية والمرتفق. كما أنها لا تنطوي على دور “ساعي البريد” الذي يلعب دور صلة الوصل البيروقراطي بين السلطات العمومية والمشتكي من تصرفاتها. مناسبة هذا القول، أ ن المتتبع للتقارير السنوية الصادرة عن مؤسسة وسيط المملكة، يلحظ مثل هذا التوجه، خصوصا على مستوى اللغة التبريرية المستخدمة لوصف موقف الإدارات العمومية إزاء بعض القضايا الإدارية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا مما يقلل من الثقل المعنوي لتقارير هذه المؤسسة الدستورية، التي تعتبر أهم سلطة أدبية يتوفر عليها وسيط المملكة لدفع المسؤولين العموميين للامتثال التام لتوصياته واقتراحاته. بل أحيانا نجد تلك التقارير أكثر انتقادا للمرتفق حينما تشير مثلا إلى ظاهرة “ثقافة التشكي” التي تميز المرتفق المغربي حسب بعض تقارير وسيط المملكة. وهو موقف لا ينسجم على كل حال مع ما جاء به الدستور المغربي، الذي جعل الدفاع عن حقوق المرتفقين من مهام المؤسسة.  وغني عن البيان أن مثل هذه الوظيفة الحقوقية لا تحتاج إلى “الموضوعية الأكاديمية” التي تميز تقارير المؤسسة، أو حتى إلى مجرد “التعاطف المعنوي”، لأنهما بلا أثر عملي على بنية العلاقات الارتفاقية، وإنما تحتاج إلى “ترافع” لأجل إحقاق الحقوق المعلقة و رد المظالم لأصحابها. ولعل هذا ما رغب فيه المشرع أساسا حينما منح مؤسسة الوسيط صلاحية القيام بالمبادرة التلقائية، كلما دعت ضرورة حماية حقوق مرتفقي الخدمات العمومية ذلك (حالة مباراة المحاماة على سبيل المثال)، أو حينما منحه إمكانية اقتراح حلول على أساس مبدأ العدل والإنصاف، الذي قد يضيع في بعض حالات التطبيق الأعمى لبعض النصوص القانونية من قبل الإدارة العمومية.

و مما تجدر الإشارة إليه أيضا، أن التسميات التي تعطى لبعض المؤسسات تؤثر على أدائها داخل البنية الوظيفية التي تتحرك داخلها، ما دامت تستبطن مضمونا تواصليا معينا يستهدف القائمين على المؤسسة و محيطها المؤسسي.  لذلك يبدو أن اختيار تسمية “الوسيط” من قبل المشرع لا يساعد المؤسسة على القيام بدور ترافعي يعيد “التوازن الحقوقي” بين طرفين، أحدهما يحوز امتيازات السلطة العامة (الإدارة)، و الآخر (المتعامل مع الإدارة) يعاني من هشاشة وضعيته الارتفاقية لأسباب ذاتية وموضوعية. و لعل هذا ما انتبهت إليه بعض التجارب المقارنة التي اختارت لمثل هذا الوظيفة الحقوقية مؤسسات تحمل تسميات دالة، مثل النموذج الاسباني الذي اختار تسمية “المدافع عن الشعبDefensor del pueblo ” ، أو  النموذج الأسكندنافي الذي اختار تسمية “مفوض الشعبOmbudsman “. بل حتى فرنسا التي استلهم منها المشرع المغربي نموذج “الوسيط”، قامت باستبدال التسمية سنة 2011 من “وسيط الجمهورية ” إلى “المدافع عن الحقوقLe Défenseur des Droits “.  لقد تفطنت النماذج المشار إليها، على ما يبدو، إلى أن الدفاع عن الحقوق لا يحتاج إلى مجرد “وساطة حيادية”، وإنما إلى ترافع وانحياز مسؤول للطرف الأضعف في العلاقة الارتفاقية.

رابعا- “التصلب البيروقراطي” للإدارة المغربية

كانت لحظة الإعلان عن “المفهوم الجديد للسلطة” بمثابة شهادة ميلاد عقيدة جديدة، ينبغي أن تحكم تصرفات الإدارة في اتجاه خدمة المواطن وحماية حقوقه، أفرادا وجماعات . و لم يتم الاقتصار على مستوى الخطاب فقط، وإنما تم اتخاذ تدابير زجرية في حق العديد من مسؤولي الإدارة، كما تم سن تشريعات وإحداث مؤسسات (الوسيط من ضمنها) تعمل على تجسيد هذا التوجه الرسمي المعلن. غير أن كل ذلك، لا يكفي عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع بنيات إدارية راكمت تقاليد راسخة، قائمة أساسا على خدمة السلطة السياسية والمصالح الضيقة لبعض الإداريين قبل خدمة المواطن.

إن تغيير سلوك الإدارة، عموما، ليس بالأمر اليسير، خصوصا وأن الأمر يتعلق ببنية بيروقراطية “متصلبة بطبيعتها” بتعبير “ميشيل كروزيي”، بل ومقاومة للتغيير السلمي، كلما كان مربكا لنسق العلاقات المنسوج داخلها. لذلك لا يكون مجرد إصدار النصوص القانونية والتوصيات البيروقراطية كافيا لبلوغ تلك الغاية، إذا لم يوجد على مناصب المسؤولية مسؤولون مميزون، يؤمنون بالتغيير ويعملون على تحقيقه.  بعبارة أخرى، الأمر يحتاج لكفاءات تتمتع بالشجاعة والقدرة على تحدي البنيات الإدارية المتصلبة من دون استحضار أية مصالح ضيقة، عاجلة كانت أم آجلة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن “ماكس فيبر”، كان قد قدم مفهوم “الكاريزما” كجزء من نظريته حول السلطة والشرعية. فلقد عرفها على أنها شكل من أشكال القيادة التي تعتمد على الخصائص الشخصية للفرد. غير أن المقصود هنا ليست المواهب القيادية، وإنما، وأساسا، المسار غير العادي لبعض الشخصيات، وكذا علاقات القوة التي تتوفر عليها في علاقتها مع السلطات الدستورية الثلاث ( الملك، البرلمان، الحكومة)، والتي تتيح لها، من دون غيرهم، إمكانية مواجهة السلوكات المستحكمة، سواء كانت إدارية أو ثقافية، بشكل يلهم الآخرين ويؤثر على سلوكهم.  ومثل هذا القول، لا يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة التي تستند فيها السلطة إلى القوانين والأنظمة الإدارية. فدائما ما كانت هناك حاجة ماسة للشخصيات ذات المسار الاستثنائي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتحديات الكبرى من قبيل تغيير عقلية الإداريين. فهم فقط القادرين على تحفيز التحولات داخل البنية المؤسسية للإدارة وضمان استمرارية واستدامة تأثيرها. ويزداد الأمر إلحاحا كون منصب “الوسيط” في التجربة المغربية يتولاه “مسؤول معين”، على خلاف بعض التجارب المقارنة التي تعتمد نظام “الأمبودسمان المنتخب” الذي هو مسؤول يكتسب “الكاريزما” تلقائيا، ما دامت لا تعلوه أية سلطة، باستثناء القانون!

أستاذ جامعي، جامعة الحسن الأول-