تجربة منيف في عالم النفط: الفصل الثالث من القصة

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
عبدالرحمن منيف نتاج الواقع الذي انخرط فيه بأدبه وحياته، ومما أسهم في تكوين شخصيته الجسدية والوجدانية حتى أصبحت أنموذجًا نادرًا في الوطن العربي، كونه سعودي الأب، وعراقي الأم، وأردني المولد، ومصري ولبناني وسوري الإقامة. لذا كانت نظرته أبعد من الأنانية الإقليمية.
نشر منيف أول رواية له وهي (الأشجار واغتيال مرزوق) سنة 1973م، ثم رواية (قصة حب محبوسة) سنة 1974م، ثم رواية (شرق متوسط) سنة 1975م. وقام بعدها بكتابة رواية (حين تركنا الجرس) سنة 1976م، وكتب بعد ذلك رواية (النهايات) سنة 1977م، وجاءت بعدها رواية (سباق المسافات الطويلة) سنة 1979م. وبعد ذلك اشترك مع جبرا إبراهيم جبرا في كتابة رواية (عالم بلا خرائط) سنة 1982م.
وقام بعدها بكتابة روايته الضخمة (مدن الملح) التي تتكوّن من خمسة أجزاء وهي (التيه) سنة 1984م، و(الأخدود) سنة 1985م، و(تقاسيم الليل والنهار) سنة 1989م، و(المنبت) سنة 1989م، و(بادية الظلمات) سنة 1989م. وتلاها رواية تعدّ جزءًا ثانيًا لرواية (شرق المتوسط) وهي (الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى) سنة 1991م، ويصدر بعدها مؤلفًا بعنوان (سيرة مدينة) سنة 1994م، وينشر السيرة الغيرية (عروة الزمان الباهي) سنة 1997م. بعد ذلك كله تأتي ثلاثيته (أرض السواد) سنة 1999م، وهي آخر رواية له. وبعد ذلك تظهر رواية (أم النذور) التي كتبها في بدايات حياته، لكنها لم تُنشر إلا عام 2005م. ولم يكتب عبدالرحمن منيف إلا مجموعتين قصصيتين، وكانت هاتان المجموعتان مرحلة تجريبية.
لعبدالرحمن منيف الكثير من الدراسات الأدبية والسياسية، منها (الكاتب والمنفى) سنة 1991م، و(الديمقراطية أولًا، الديمقراطية دائمًا) سنة 1995م، و(بين الثقافة والسياسة) سنة 1999م، و(رحلة ضوء) سنة 2001م، و(ذاكرة المستقبل) سنة 2001م، (ولعة الغياب) سنة 2001م، و(العراق: هوامش من التاريخ والمقاومة) سنة 2003م، و(مبدأ المشاركة) و(تأميم البترول العربي) سنة 1973م. وعملان لم يصدرا إلا متأخرًا على الرغم من كونهما البدايات الأولى في حياته الأدبية، وهما (أسماء مستعارة) سنة 2006م، و(الباب المفتوح) سنة 2006م. وصدرت لمنيف دراستان فنيتان، وهما (مروان قصاب باشي: رحلة الفن والحياة) سنة 1996م، و(جبر علوان: موسيقي الألوان) سنة 2000م.
حصل عبدالرحمن منيف على جائزة الرواية العربية في المؤتمر الأول للرواية الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في مصر، إضافة إلى عدد من الجوائز الأدبية الأخرى. وقد ترجمت معظم كتبه إلى خمس عشرة لغة، كالإنجليزية والألمانية والنرويجية والإسبانية والتركية والفرنسية، وغيرها.
حاول منيف في أعماله مقاومة الواقع في أيامه لأنه شهد أحداث العالم العربي في القرن العشرين، فأخذت القضايا الكبرى تشغل تفكيره فاندمج معها، وحاول علاجها، ولكن هذه القضايا سرعان ما تحولت إلى شعارات، وبعدها أصبحت واجهة للحكم العسكري والأنظمة المتحجرة، ومن ثم مبررًا لاستبداد لا ينتهي. ولأنّ نظرة عبدالرحمن منيف مثالية في علاج هذا الواقع المترهل، اختار الكلمة الحرة طريقًا له، فكانت أعماله تمثل صوت الجماعة على مستوى الرواية. فالكتابة قوة كبيرة للردّ على زمن الرداءة، وهي عند عبدالرحمن منيف، كما ذكر محمد الشحات، عمل نضالي بقدر ما هو عمل فني.
أعمال عبدالرحمن منيف صورت المأساة بصورة تقطر شعورًا بالذنب عند المثقف لعدم استشرافه لضياع وطنه وتشرده حتى وقعت المأساة. حيث طافت أعمال منيف ووصفت الأماكن والبشر. كما أن العودة إلى تاريخ الحجاز والعراق ولهذه المرحلة بالذات تكشف لنا عن بعد إسقاطي، فهذه المرحلة من تاريخهما الحديث، مرحلة الأمير خزعل والملك داود، تماثل بعض جوانب المرحلة الراهنة، من حيث الصراع الدولي والتنافسي للسيطرة والاستحواذ على المفاتيح الأساسية في المنطقة، بالتالي إخضاعها وإلحاقها بغيرها، وهذا ما نراه بأعيننا الآن. عبدالرحمن منيف أراد استجلاء العظة والعبرة مما حدث في تلك الفترة ووضع ذلك حاضرًا أمام القارئ ليسهم في استيضاحه، ومن ثم الحكم عليه، فالماضي عنده يتشكل حاضرًا في ذهن قارئ الرواية.
لذا، فإن النقاد والكتّاب والباحثين قدموا مؤلفات كاملة عن عبدالرحمن منيف، وجدوا فيه مادة حية ثرية، واتفقوا جميعًا على أن عبدالرحمن منيف كاتب أيديولوجي، ويؤمن إيمانًا كبيرًا بالوحدة العربية والاشتراكية العربية، وأن معظم رواياته جاءت لتبشر بهذه الأفكار التي كانت سببًا رئيسيًا في الصراع العربي، منذ الثورة المصرية سنة 1952م، إلى وقتنا الحاضر. فعبدالرحمن منيف ليس كاتبًا ذاتيًا يكتب لهم ليُريهم وجههم في المرآة، ويقدم لهم شخصيات روائية تدافع عن وجودها وتناضل من أجل حريتها، وتموت شجنًا وتعذيبًا من أجل المبادئ التي تؤمن بها. إذن، يقدم لنا عبدالرحمن منيف أدبًا أيديولوجيًا.
وعلى هذا، فالإنسان المثقف الواعي المطلع على تاريخ الدول يعرف الهدف الذي يسعى عبدالرحمن منيف لإيصاله من خلال أعماله الروائية. فأرض السواد، مثلًا، استحضار لفترة محددة من تاريخ العراق لغايات استقصاء وبحث واستظهار مقدرات الوطن.
إن أنانية قيمة الكاتب بإبداعه هي أن يقرأه الناس، أمّا الكاتب الملتزم فيحلم أن تؤثر أفكاره في الناس كالبذور الطيبة في الأرض، وهذا ما رأيناه في أعمال عبدالرحمن منيف (مدن الملح وأرض السّواد). وأول ما يطلبه عبدالرحمن منيف من قرائه هو أن يطرحوا على أنفسهم السؤال الذي ختم به رواية عالم بلا خرائط التي ألفها مع جبرا إبراهيم جبرا: أين مكاني من هذا كله؟ هل سأجده؟ هل سأكون جديرًا بالمستقبل؟
هذا السؤال موجه لكل قارئ، بل لكل عربي، وهو تساؤل شديد الصعوبة وشديد البساطة، فهو يتطلب أن نعرف ما نحن فيه لنعرف مكاننا منه، ويتطلب أن نلتزم بقيم المستقبل لنكون جديرين بالانتماء إليه. فأسئلة منيف ناتج عن الواقع الذي انخرط فيه بأدبه وحياته. اختار طريق الوعي، وآمن بأن كشف الماضي سيساعد على قراءة الحاضر، وأن كشف الواقع الراهن سيؤدي إلى الثورة عليه، فسلط الضوء على مدن النفط وأرض السواد العراق التي أنشأتها الثورة الطارئة؛ ليبين أنها كيانات مصطنعة مبنية على الرمل فلا جذور لها ولا مستقبل، وسلط الضوء على سياسات الأنظمة وممارساتها؛ ليبين ما حققت من إنجازات في العقود الثلاثة الأخيرة، ولكن في مجال واحد هو القمع مع تباين وجهات النظر في العملين.
عبدالرحمن منيف مؤرخ، ولكنه يكره سجن التاريخ، فالتاريخ هو الماضي ومنيف مسكون بالمستقبل. وهو روائي ورواياته مشدودة إلى المكان، ولكنها ترفض أن يبتلعها المكان، لذا هربت بعناوينها من مدن النفط إلى (مدن الملح) ومن العراق إلى (أرض السواد). وحين اختار الرواية طريقًا للنضال، جعل منها وعاءً للمعرفة، وجعل من المعرفة أداةً للوعي، وجعل من الوعي محرضًا للفعل. فقد تعلم أن الجهل حين يتفشى في الناس يحرض الحكام على التسلط، وأن المعرفة وحدها تحرر، وأن أهم ما ينبغي كشفه ومعرفته هو المغيب؛ لهذا عرض في رواياته الكبيرة (مدن الملح وأرض السواد) الجوانب التاريخية التي لم يسجلها التاريخ، وعرض في حوارات روايته الأخرى الكثير من المشكلات النابجة عن غياب الوعي.
وفي فجر يوم السبت الموافق الرابع والعشرين من يناير لسنة 2004م، لفظ كاتبنا أنفاسه الأخيرة، فكان عبد الرحمن منيف نموذجًا للأديب الملتزم بفكره. اختار كشف الماضي ليساعد على قراءة الحاضر وفهم معطياته ليسهل التعامل معه، ويؤدي إلى الثورة والتمرد على العابثين به. وهو ما أدى إلى منعه من دخول الخليج والعراق، فعاش حياة تتحكم فيها ظروف وأحداث نابعة من رفضه للأسر وضياع الوطن، مثلما تتحكم فيه نوايا الآخرين وشكوكهم ومخاوفهم. فالكتاب الذي يفكر في التوجه توجهًا منفصلًا عن السياسة ككاتب يتنكر للواقع والتجربة والانغماس في الحياة اليومية العادية، ومعناه صيانة حياة الفرد ذاته وخيانة شعبه، وهذا ما رفضه عبدالرحمن منيف. كانت هذه مسيرة وطني بلا وطن، أبصرنا معها كيف كان الانتصار للمبادئ ولكلمة الحق.