كيف أصبحت استراتيجية توزيع المساعدات الأمريكية فخاً لإسرائيل في غزة؟

كتبت- سلمى سمير:
منذ اليوم الأول لبدء تنفيذ الخطة الأمريكية الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، تحولت الخطة الجديدة والتي حاولت كل من تل أبيب وواشنطن الإعلان عنها كمنقذ محتمل وسط أزمة المجاعة المتصاعدة، إلى مشهد من الفوضى والانهيار منذ يومها الأول، فبينما كان الهدف المعلن إنقاذ أكثر من مليوني فلسطيني مهددين بالجوع، بدت الوقائع على الأرض أكثر تشويشًا وعنفًا مما توقعه أي من الأطراف.
اتضح هدف الرغبة الإسرائيلية الأمريكية من المنظمة التي جاءت تحت اسم مؤسسة “غزة الإنسانية”، أكثر فأكثر مع مرور الوقت فمنذ افتتاح المركز قبل 8 أيام وحتى تاريخ اليوم استشهد أكثر من 100 فلسطيني إضافة لإصابة 490 آخرين، أثناء رحلتهم للحصول على بعض الطحين والإمدادات الأساسية للبقاء على قيد الحياة بعدما فتك بهم الجوع منذ منعت إسرائيل دخول المساعدات إلى القطاع، وذلك بحسب إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي بغزة.
أحلام الغزيين أصبحت تشبه أحلام دود الأرض.
مستكثرين على حالهم جمع بقايا الطحين المخلوط بالتراب:
(كل واحد بوخذ رزقه) pic.twitter.com/ek0z60YxeF
— معين الكحلوت 🇵🇸 , من غزة 💔 (@Moin_Awad) June 3, 2025
آخر تلك المجازر، هو ما قام به الجيش الإسرائيلي، صباح اليوم الثلاثاء، في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، بفتح نيرانه على المدنيين الذين كانوا ينتظرون الحصول على المساعدات الإنسانية في المناطق المخصصة لتوزيع المساعدات، ما أدى لاستشهاد نحو 27 فلسطينيًا وإصابة آخرين، مبررًا ذلك، بأنهم انحرفوا عن المسارات المخصصة لتلقي المساعدات.
إن امتلك الجيش الإسرائيلي، المبرر لاستهداف منتظري المساعدات الإنسانية اليوم، ولكن ماذا عن مجزرة يوم الأحد، عند قيام الجيش الإسرائيلي باستهداف منطقة توزيع المساعدات الإنسانية في مواصي رفح جنوبي القطاع، رغم خضوع المنطقة لسيطرته التامة سواء من ناحية التأمين أو الترتيب أو التوزيع.
بداية احتفالية
في اليوم الأول لافتتاح أحد مراكز التوزيع التابعة لمؤسسة “غزة الإنسانية” – الكيان الذي أنشئ بدعم أمريكي وإسرائيلي لتولي ملف توزيع المساعدات – بدا المشهد أشبه بمهرجان رمزي، وذلك بعد تداول فيديو وقوف أحد المتعاقدين الأمنيين الأمريكيين الملثمين، على تلة ترابية ويرسم بيديه بعض الحركات للجمهور المحاصر خلف الأسلاك الشائكة، فيرد عليه الحشد بهتاف وتحمس من أجل الحصول على الإمدادات التي حظرت إسرائيل دخولها لوقت طويل.
مرتزقة أمريكيون يضحكون على أوجاع أهل غزة..
وكأنهم في مشهد ترفيهي، أولئك الذين باعوا ضمائرهم بأموال، وأرادوا السخرية من شعب لم ينحنِ رغم الجوع والحصار..#الأيام_المباركة #غزة_تقاوم_وستنتصر_بأذن_الله pic.twitter.com/7nxlhqTreO
— مِحراك – الجامعة الأردنية (@me7rak_) May 29, 2025
لكن سرعان ما انقلب هذا المشهد إلى كارثة، ففي فترة بعد الظهر، اقتحم آلاف المدنيين الجائعين للموقع، وتخطوا الحواجز، وبدأت أصوات الأعيرة النارية تُسمع في المكان، بينما هرع الناس في كل اتجاه وسط حالة من الفوضى، ليسقط على إثر ذلك عشرات الشهداء وعدد كبير من المصابين فقط في سبيل الحصول على بعض الطعام بعدما فتكت المجاعة بكثيرين.
في الواقع كان عدد المساعدات الموجودة وحجم الإمكانيات التي وفرتها إسرائيل وأمريكا في نقاط التوزيع المحدودة لا يتناسب على الإطلاق مع الأعداد الكبيرة – بمن فيهم من أطفال- وقفوا دخل حشد غير منظم للحصول على بعض الطعام وهو ما انتهى بالبعض بالخروج من ذلك الحشد لكن إما مصابا ومعه الطعام أو شهيدا أو بلا شيء.
هيكل بديل للأمم المتحدة
جاء تأسيس “مؤسسة غزة الإنسانية” كمحاولة من قبل إسرائيل لخلق بديل للأمم المتحدة ووكالاتها من ضمنها وكالة غوث وتشغيل الللاجئين “الأونروا” التي وجهت لها إسرائيل اتهامات التعاون مع المقاومة الفلسطينية في تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” 7 أكتوبر 2023، لتصبح بذلك المنظمة الجديدة هي الجهة الرئيسية لتنسيق وتوزيع المساعدات في غزة.
إضافة لذلك كان قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإسرائيل بإنشاء الهيئة الجديدة، كمحاولة للالتفاف على آلية الأمم المتحدة بدعوى أن حركة المقاومة الإسلامية حماس تسيطر على المساعدات وتعيد توجيهها، وهو ما تنفيه الحركة بشكل قاطع بل وتعتبره محاولات من قبل حكومة بنيامين نتنياهو للالتفاف على حظر المساعدات المفروض على القطاع.
على جانب آخر، قوبلت الخطة بإدانة واسعة من وكالات الإغاثة الدولية، التي رفضت التعاون مع المؤسسة الجديدة، مؤكدة أن وجود مقاولين أمنيين مسلحين – بعضهم أمريكيون – عند نقاط توزيع المساعدات يهدد ثقة المدنيين ويعرقل فعالية الإغاثة.
Thousands of people in Gaza rushed to receive aid from a new US-backed distribution center in southern Gaza. The so-called Gaza Humanitarian Foundation has been accused of helping Israel achieve its military objectives. pic.twitter.com/cnIJrSVitY
— DW News (@dwnews) May 27, 2025
ماهي مؤسسة “غزة الإنسانية”؟
وتصدر اسم مؤسسة غزة الإنسانية المشهد مع إعلان واشنطن في مطلع مايو الماضي عن إطلاق نظام جديد لتقديم المساعدات إلى سكان غزة، عبر شركات خاصة. ورغم أن المؤسسة لا تمتلك موقعا إلكترونياً رسميا، إلا أن سجلات المؤسسات الخيرية على موقع Fundraiso السويسري، تؤكد تسجيل المنظمة في سويسرا بتاريخ فبراير 2025.
وعلى الرغم من تأسيسها في جنيف، لا تمتلك مؤسسة غزة الإنسانية مكاتب أو ممثلين معروفين في تلك المدينة التي تعد مركزا للعديد من الهيئات الإنسانية الدولية.
بعد فترة من الإعلان عن المؤسسة، تقدم المدير التنفيذي للمنظمة الحديثة، جيك وود، باستقالته، بعدما توصل إلى استنتاج مفاده أن المؤسسة غير قادرة على تنفيذ مهامها مع الالتزام بالقيم الإنسانية الأساسية مثل الحياد والاستقلالية وعدم التحيز.
بعد استقالة وود وتعيين مدير تنفيذي آخر، شرعت المؤسسة في توزيع الإمدادات لسكان غزة في مواقع قالت إنها آمنة للتوزيع، مع وعد بزيادة عدد الشحنات يوميًا، وهو الوعد الذي أثبتت الواقع على الأرض أنه لم يتحقق.
آلية التوزيع والتحديات اللوجستية
تظل تفاصيل توزيع المساعدات عبر مؤسسة غزة الإنسانية غامضة إلى حد كبير. وفقاً لما أعلنت المؤسسة، يتوجب على الفلسطينيين التوجه إلى أربعة مراكز توزيع في جنوب ووسط غزة لاستلام صناديق تضم مواد غذائية ومستلزمات نظافة أساسية.
يؤمن المواقع متعاقدون أمريكيون، بينما تحيط بها دوريات للجيش الإسرائيلي. ويخضع المستفيدون لعمليات فحص وتدقيق هوية متقدمة تعتمد على تقنيات حيوية مثل التعرف على الوجه، بهدف التأكد من عدم ارتباطهم بحركة حماس قبل السماح لهم بالوصول إلى المساعدات.
مشاهد اضطراب واشتباكات
في اليوم الرابع للتوزيع، قالت المؤسسة إنها وزعت “مليوني وجبة”، لكنها لم توضح كيف يتم توثيق المستفيدين أو مراقبة التوزيع، ولم تقدم أي معلومات تفصيلية بهذا الشأن كما ذكرت “بي بي سي”.
في موقع قريب من مخيم النصيرات، وثقت مقاطع فيديو قذف أحد عناصر الأمن قنبلة دخانية وسط الحشد، ما دفع العشرات للهرب وسط الدخان والصراخ. وقالت المؤسسة إن الأمر كان “ردًا على حشد خطير ورافض للتفرق”، زاعمة أن القنبلة كانت غير قاتلة، وأن “لا إصابات وقعت”، لكن الواقع ليس كذلك مع إعلان وزارة الصحة في قطاع غزة، اليوم الأحد، عن استشهاد 31 فلسطينيًا جراء استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة توزيع المساعدات في مدينة رفح جنوبي القطاع.
🚨🚨🚨🚨
أنا لست مستوعبا ما يحصل بصراحة
هل هي شركة توزيع أكل وإلا شركة توزيع نيران على شعب غزة؟؟
هو ناقصه يعني إطلاق نار وإلا غذاء وماء ودواء !!
شاهد اشتباكات جديدة بين الأهالي وشركة توزيع المساعدات الأمريكية pic.twitter.com/Y9pdNZ3xSA— محمد علاء العناسوه (@alaa_tallaq) May 29, 2025
وجاء شن الغارة الإسرائيلية، على نقطة التوزيع رغم خضوعها لسيطرتها ورغم أنها ليست تابعة لحماس بالنظر لتبريراتها السابقة في قصف المساعدات، وهو ما انتهى إلى إصابة 115 آخرين، إضافة إلى مئات آخرين في انتهاكات الأيام السابقة.
من جهتها علقت حركة المقاومة الإسلامية، على الهجوم، بالقول، إن الاحتلال الإسرائيلي، يستخدم مراكز توزيع المساعدات الواقعة تحت سيطرته كمصائد لاستدراج الجوعى، وممارسة أبشع صور القتل والإذلال والتنكيل بحقهم.
وفي منشور سابق على فيسبوك، هددت المؤسسة بإغلاق أي موقع توزيع يشهد حوادث اجتياح أو “نهب” بحسب زعمها دون الالتفات للكميات القليلة للغاية والتي لا ترقى لسد حاجات الآلاف الذين اجتمعوا بعد أن فتك بهم الجوع للحصول على كميات محددة من الغذاء، وصفتها منظمة “أطباء بلا حدود” بـ “التافهة” لعدم ملائمة كميات الإمدادات لحجم الكارثة الفعلية داخل القطاع.
فوضى المعلومات والتواصل
تعاني العملية التي تقودها المنظمة الأمريكية الإسرائيلية، في قطاع غزة من ضعف واضح في التواصل والتنظيم، مع ذهاب البعض للموقع على أمل الحصول على مساعدات ثم يعود خالي الوفاض، وسط تواجد نقاط توزيع محددة مقارنة بالسابق.
فبينما كانت الأمم المتحدة تدير أكثر من 400 نقطة توزيع منتشرة في أنحاء غزة، اختارت المؤسسة الإسرائيلية الأمريكية العمل عبر أربعة مواقع فقط، وهو النهج الذي انتقدته منظمة “أوكسفام” مشيرة إلى أنه يخضع العملية لـ”سيطرة عسكرية”، ويزيد من معاناة الفئات الأضعف مثل كبار السن الذين لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة للوصول إلى نقاط التوزيع.
الإذلال الذي تمارسه الشركة الأمنية الأمريكية بحق المجوعين في غزة فاق كل احتمال، تستدعي الشركة عبر الجيش الإسرائيلي الآلاف إلى مراكز التوزيع وبعد وصولهم تخبرهم بأنه لا يوجد توزيع اليوم. طريقة التوزيع مذلة ومهينة والكميات رمزية للغاية. pic.twitter.com/0mzTnf9b6P
— Ramy Abdu| رامي عبده (@RamAbdu) May 31, 2025
هل هذه مساعدات إنسانية بالفعل؟
وبحسب الصور المتداولة تتضمن صناديق المساعدات التي وزعتها المؤسسة، مواد أساسية مثل المعلبات، الأرز، البسكويت، العدس والزيت، بينما لم تتضمن أي مستلزمات طبية، أوأدوات نظافة، ووسائل لتنقية المياه، التي تتضمنها المساعدات الإغاثية في العادة.
والدليل على أن المؤسسة أخلفت بوعودها، هي وثيقة داخلية مكونة من 14 صفحة صادرة عن المؤسسة قد وعدت بتوفير الإمدادات المذكورة سابقا، لكن على أرض الواقع، لم يُوزع سوى الطعام، وفي يوم الجمعة الماضي، كان موقع توزيع واحد فقط يعمل ولفترة لم تتجاوز الساعة قبل أن تعلن المؤسسة على فيسبوك انتهاء الإمدادات.