براون: نزعة ترامب الشعبوية تمنح الرئاسة الأمريكية طابعاً طفولياً

في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة التي أجريت في نوفمبر الثاني الماضي صوّت الأمريكيون لصالح رئيس صريح، مُتبجح، مُتمركز حول الولايات المتحدة، وعد بإنهاء التباهي الأخلاقي، ووقف التدخل الأمريكي في الصراعات الخارجية، ووقف سفك الدماء على الصعيد الدولي. وفي حملته الانتخابية اعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لقب “المخرب” وسام شرف له، وكان يشيد بالحكام المستبدين مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الوقت الذي لم يبد فيه اي تعاطف مع أوكرانيا التي تواجه غزوا عسكريا روسيا شاملا.
ومع ذلك، تعهد بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خلال 24 ساعة فقط من توليه الرئاسة. والآن مرت 100 يوم على عودته للبيت الأبيض ومازال العالم ينتظر نهاية حرب أوكرانيا.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية يقول أوريل براون أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية في جامعة تورنتو الكندية، إن حلفاء الولايات المتحدة ينتظرون رؤية ما إذا كان ترامب سيخضع للواقع ويُدرك أخيرًا أن بوتين، غير المهتم بإنهاء الحرب، يتلاعب به. و مع ذلك، يصعب للغاية فهم تفكير الرئيس الأمريكي. وكما كان الحال مع قادة الاتحاد السوفيتي السابق، يحاول المحللون والقادة الأجانب تحليل كلمات ترامب وتتبع مزاجه للوصول إلى أي استنتاجات مقبولة.
ففي عهد الرئيس الأمريكي أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية تتغير من ساعة إلى أخرى وليس من رئيس إلى رئيس، حيث يسعى ترامب إلى صياغة مزيج من الانعزالية الجيوسياسية، والرسوم الجمركية المثير للاضطراب، والضغط المستمر على حلفاء واشنطن في حلف شمال الأطلسي “ناتو” لزيادة الإنفاق الدفاعي بنسب عالية، في حين يُدلل الحكومات الديكتاتورية أو غير الليبرالية في روسيا والمجر ودول عديدة في الشرق الأوسط
في الوقت نفسه يبدو ترامب مقتنعًا بقدرته على السيطرة على البيئة السياسية الدولية، وجعل الولايات عظيمة على صورته، وإنهاء الحروب، انطلاقا من إيمانه الراسخ بقدراته التفاوضية.
وأضفى هذا الإصرار على علمه المطلق وآماله في القدرة المطلقة طابعا صبيانيا على الرئاسة الأمريكية، حيث تركت الخبرة و التفكير الواقعي المجال للإطراء الغريب والإيجابية الجامحة. وأصبح على مستشاري ترامب الخبراء إما ترك مواقعهم أو تجميل الأخبار السيئة ، وهو ما يتضح تماما من إقالة مستشار الأمن القومي مايك والتز، وتهميش المبعوث الخاص لأوكرانيا الجنرال كيث كيلوج.
في المقابل يبدو أن الرئيس تحت تأثير “همسات التملق”، من نائبه جيه دي فانس إلى مذيع قناة فوكس التلفزيونية المقال تاكر كارلسون، الذي يصف نفسه بالانعزالية. ومعظم أولئك الذين يستمعون إلى ترامب ينظرون إلى روسيا بعين العطف وأوكرانيا بعين الازدراء.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه على الكثيرين من المراقبين والمسؤولين حول العالم هو لماذا يتعامل ترامب بهذا الود مع روسيا؟
يقول أوريل براون الباحث المشارك في مركز ديفيز للدراسات الروسية والأوراسية التابع لجامعة هارفارد الأمريكية في تحليله إن ترامب يركز تحديدًا على هدفين في لعبة القوى الكبرى مع روسيا، والتي يرى أنها ستنهي الحرب. الأول افتراض إمكانية فصل موسكو عن تحالفها مع بكين. والثاني يتعلق بالمعاملات التجارية، حيث يبدو ترامب مقتنعًا بأن روسيا لديها فرص استثمارية وتجارية لا حدود لها.
والواقع أن ترامب مخطئ في كلا الأمرين – حتى لو كانت أهدافه الساعية إلى “التجارة لا الفوضى”، والبناء بدلًا من القصف، مرغوبة ونبيلة.
والحقيقة هي أن روسيا تعد شريكًا ثانويًا للصين، حيث أصبحت موسكو شديدة الاعتماد على بكين ومثقلة بالديون لدرجة تمنعها من تغيير تحالفاتها، بل يمكن القول إن بوتين رهن مستقبل بلاده لصالح الصين من أجل الحفاظ على سلطته الشخصية.
أما بالنسبة لفرص التجارة والاستثمار لدى روسيا، فهي أقل كثيرا مما يتصوره ترامب. فقد فشلت روسيا، في عهد بوتين، اقتصاديًا. ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي الاسمي تقريبًا حجم ناتج إيطاليا، كما أنها تفتقر إلى أي نوع من قوانين الأعمال الموثوقة أو المحاكم المستقلة.
وبفضل مهارات بوتين في التلاعب بمحاوريه، ونزعة ترامب وتوجهاته، فلا عجب أن أي نية قد يحملها ترامب لمعاقبة روسيا على عدوانها المستمر وتعنتها تتلاشى عندما يتحدث مع الرئيس الروسي كما تذوب كتلة ثلج تحت شمس الصيف.
ورغم ذلك هناك جانب إيجابي في سياسات ترامب غير العقلانية، حيث نجح من خلال الضغط القوي والتجاهل والتهديد بالانسحاب، في إجبار الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو على الشروع في زيادات مخصصات الدفاع لديها بنسبة كبيرة، بما يتيح لها القدرة على مواجهة التهديد الروسي. ورغم فوائد زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي، فإن الوصول إلى أهدافه وتحقيق قدرات ردع أوروبية ضد روسيا سيستغرق وقتا.
وكما أشار الأمين العام السابق لحلف الناتو، أندرس فوج راسموسن، ، يجب أن يكون الناتو “تحالفًا من الراغبين، لا من المنتظرين”، حيث تبدو خطة المفوضية الأوروبية لإعادة التسليح/الجاهزية 2030 طموحة، ويجب التعجيل بها للتعامل مع حالة الطوارئ العسكرية الملحة.
وإذا كان من السابق لأوانه التخلي عن الأمل في أن يُدرك ترامب، في مرحلة ما، حقيقة عدوانية بوتين وتلاعبه الذكي، ، فإن الأمل ليس سياسة جيوسياسية. فأوكرانيا تحتاج إلى التزام حلفائها بأمرين رئيسيين على الأقل. الأول هو استمرار الدعم العسكري الأمريكي بصورة “مؤقتة” إلى أن يتمكن الأوروبيون، بقيادة المستشار الألماني فريدريش ميرتس وجيش بلاده المُجدد، من توفير الضروريات الدفاعية لأوكرانيا بعد وقف أو خفض كبير للمساعدات العسكرية الأمريكية. والأمر الثاني، أن يُدرك الغرب أن أي تصور للتعاون البنّاء مع روسيا في ظل حكم ترامب هو وهم مطلق، وأن المطلوب هو تبني سياسة احتواء جديدة حتى يمكن السيطرة على التهديد المستمر من جانب موسكو.
وأخيرا يمكن القول إن ترامب قد يستمر في كراهية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والإعجاب ببوتين، وازدراء الأوروبيين. وقد يُصرّ على الاعتقاد الخاطئ بقدرته على إقناع روسيا بتغيير تحالفاتها، وأنها تُقدّم فرصًا استثمارية وتجارية مذهلة.
لكن إذا انهارت أوكرانيا نتيجة سحب الدعم العسكري الأساسي الأمريكي أو تركها عاجزة ويائسة بعد تسوية تفرضها عليها روسيا، فإن تداعيات الخسارة ستمتد إلى ما هو أبعد من حدودها. وسيتحمل ترامب الكارثة التي كان من الممكن تجنبها، ومعها حقيقة مزعجة، وهي أنه سيترك إرثا مسموما في السياسة الأمريكية إلى الأبد.