السر الدائم – العوامل المجهولة وراء استمرارية دييجو سيميوني في أتلتيكو مدريد

السر الدائم – العوامل المجهولة وراء استمرارية دييجو سيميوني في أتلتيكو مدريد

تُشكل مسيرة دييجو سيميوني مع أتلتيكو مدريد منذ ديسمبر 2011 ظاهرة استثنائية فعلًا، ففي عالم تطغى عليه تقلبات المدربين وتتسارع فيه دورات التغيير، ظل “الـ تشولو” صامدًا كـقبطانٍ وحيدٍ يقود سفينته عبر عواصف ممتدة، محوّلاً النادي من فريقٍ يعاني عدم الاستقرار إلى قوةٍ أوروبيةٍ تزعج عمالقة القارة، كما تحوّل إلى ظاهرة ثقافية جديدة تجسدت في 8 ألقاب، في أكثر من 700 مباراة، ليصبح بذلك أول مدرب يتخطى 700 مباراة مع نفس النادي في اسبانيا، أرقامٌ تختزل ثورةً كرويةً متكاملة.

لكن وراء هذه الملحمة، تُلوح في الأفق أسئلةٌ مُقلقة مثل: لماذا، ورغم التراجع الملحوظ، والخروج المبكر من دوري الأبطال، والتذبذب في الليجا، وتقلص فرص المنافسة، يمدد أتلتيكو عقد الرجل حتى 2027؟ بل ويوافق المدرب على تخفيض راتبه في خطوةٍ تُظهر التزامًا متبادلاً يفوق المنطق الرياضي التقليدي وربما الفلسفة؟ أنت تعلم أننا في عالمٍ لا يرحم، يُطرد فيه المدربون لأقل من هذه الهفوات، فماذا يحدث فعلًا؟

هل نحن أمام “مشروعٍ منهك”، كما يصفه البعض، أم أمام تحول جوهري في مفهوم الإدارة الرياضية؟ ولماذا تصر المؤسسة على البقاء في حضن المدرب، حتى عندما تشير المؤشرات الرياضية إلى أن الزمن قد تجاوز فلسفته؟ حسنًا، نحن هنا لنحفر تحت سطح الإحصائيات والألقاب، لكشف الأبعاد الخفية التي صنعت هذه المعجزة، من الاقتصاد إلى الهوية، ومن القيادة إلى السيكولوجيا الجماعية، في واحدةٍ من أكثر العلاقات تعقيدًا وإثارة في عالم كرة القدم.

خطوة إلى  الوراء 

لقد أشعل وصول سيميوني في عام 2011 واحدة من أنجح الفترات في تاريخ النادي، في رحلةٍ قلَبَتْ موازين الكرة الإسبانية، حيث قاد سيميوني سفينته إلى 8 ألقاب كبرى تُتوجها بطولة الدوري الإسباني (2014، 2021) ولقبا الدوري الأوروبي (2012، 2018) ، بينما ظلّت نهائيات دوري الأبطال (2014، 2016) شواهدَ على مقدرته على خوض المعارك الكبرى أيضًا.

هذه الإنجازات الكثيرة لم تكن  صدفا عابرة، بل حصاد بفلسفةٍ متكاملةٍ حوَّلت “الروخي بلانكوس” إلى ظاهرةٍ قارية بمعنى الكلمة، ورغم ذلك، فعبقرية سيميوني الحقيقية لا تكمن في الألقاب فقط أبدًا، بل في قدرته على نحت روح جماعية من رحم الفوضى.

حيث صاغ “التشولو” مزيجًا متفجرًا من المرونة الدفاعية الأسطورية، والهجمات المرتدة القاتلة كالسهام، وعقليةٌ لا تعترف بكلمة “استسلام”، وتحوَّل الملعب تحت قيادته إلى ورشة عملٍ متكاملة يُوجِّه لاعبيها كـ”مايسترو أوركسترا”، بينما تحوَّلت القاعدة الجماهيرية إلى جيشٍ يؤمن بفلسفته، حتى الانتقال إلى ملعب “واندا ميتروبوليتانو”، الذي دمَّر استقرار أندية عظمى، تحوَّل تحت يديه إلى مسيرة انتصارات متواصلة، هذه الهوية المتجانسة أصبحت علامةً مسجلةً للنادي، تفوق قيمتها أيَّ لقبٍ مؤقت، وهنا يكمن اللغز الأعمق: فسيجارة سيميوني كما أشعلت التكتيك، أضرمت نارَ هويةٍ تجارية نادرة.

كما تجاوزت تلك الفلسفة كونها مجرد منهج تكتيكي فقط، لتصير علامةً عالميةً مطلوبة، وجاذبةً للاعبين الذين يبحثون عن “الانتماء”، والجماهير التي تتوق إلى “الأسطورة” ودمج الخيال في الواقع،  هذه الركيزة النفسية-التجارية شكلت أيضًا رأس مالٍ لا مرئيٍ يفوق قيمة أيِّ انتقالٍ مالي، ولذلك استبدال سيميوني هنا ليس مجرد تغييرٍ تقني، بل هدمٌ لماركةٍ عالميةٍ بُنيت على مدى 13 عاماً. فهل تُقاس بعض الأزمات بميزان خسارة إرثٍ قد يُختزل في جملة واحدة: أتلتيكو هو سيميوني.. وسيميوني هو أتلتيكو؟

خاصة عند النظر إلى الأرباح المالية أيضًا، حيث حوّل سيميوني أتلتيكو مدريد إلى ماكينة مالية لا تتوقف، وأنتجت مشاركاته المتكررة في المراحل المتأخرة من دوري أبطال أوروبا عائدًا خياليًا تجاوز 300 مليون يورو، ما يعني دماءً جديدةً ضُخت في شرايين النادي.

هذا الإنجاز ليس صدفةً أيضاً، بل كان ثمرةً لـ 13 عامًا متواصلة من التأهل للبطولة القارية، وضعته في جيتو خاص لا يضم سوى 6 عمالقة أوروبيين، هذه الظاهرة لم تُثبِت تفوقه التكتيكي فحسب، بل صنعت نموذجًا ماليًا مستدامًا يُحسد عليه، لكن المفارقة تكمن في أن هذه الثروة تُولَّد بواسطة المدرب الأعلى أجرًا في العالم (40 مليون دولار سنويًا)، فكيف يُبرر النادي هذه المغامرة المالية؟

الجواب يختزل في معادلةٍ ذكية: الراتب الفلكي ليس تكلفةً، بل استثمارًا ذا عائدٍ مضاعف، فقدرة سيميوني الفذة على صناعة التنافسية بمواردَ محدودةٍ، مقارعًا الكثير من العمالقة بموازناتٍ تفوقه بأضعاف، حوّلت راتبه إلى رافعةٍ اقتصاديةٍ غير مباشرة، وشاهدٌ حي على التحسن المستمر في ميزانية النادي، بعد أن حولت المشاركات الأوروبية المستمرة الهزائم المؤقتة إلى أرباحٍ دائمة ومستدامة.

 ولذلك فعندما يحسب النادي كفتي الخسارة، يكتشف أن “فشل” سيميوني النسبي أرخصُ ألفَ مرةٍ من مغامرةِ الاستبدال، فخسارةُ 300 مليون يورو سنويًا (نتيجةً لغياب دوري الأبطال)، وانهيارُ قيمة العلامة التجارية التي بناها على مدى عقد من الزمن، كلها كوارثٌ ماليةٌ تبتلع مثل راتبه عشرات المرات، لذا، من وجهة نظر الإدارة طبعًا، يظل الاحتفاظ به ضرورةٌ استراتيجية تحمي الاستقرار الاقتصادي، وتحول المدرب نفسه إلى أصلٍ ماليٍ صامدٍ في سوق كرة القدم المتقلب، هل تشعر بالارتياب والحيرة؟ حسنًا، معك كامل الحق، ولذا إليك هذا الجدول الملخص للفكرة: 

الفئة التفاصيل
سنوات الإدارة منذ 2011 (14 عاماً حتى 2025)
الألقاب الكبرى • الدوري الإسباني: 2 (2013/14، 2020/21)• الدوري الأوروبي: 2• كأس السوبر الأوروبي: 2• كأس ملك إسبانيا: 1• كأس السوبر الإسباني: 1
أداء دوري أبطال أوروبا • نهائي: 2• نصف نهائي: 1• تأهل متتالي: 13 عاماً
الجوائز المالية التقديرية أكثر من 268 مليون جنيه إسترليني (300 مليون يورو) من المسابقات الأوروبية
راتب سيميوني السنوي (تقريبي) 40 مليون دولار

يقدم هذا الجدول ملخصاً كمياً واضحاً لمسيرة سيميوني، مع عرض حجم الألقاب الهائل والمنافسة المستمرة على مستوى النخبة التي تحققت تحت قيادته، من خلال تقديم هذه الإنجازات جنباً إلى جنب مع الأثر المالي، يساعد الجدول في وضع سياق لسردية الفشل العام تلك، كما يوضح أن أي تراجع حديث في الأداء هو جزء من فترة أطول وأكثر نجاحاً بشكل عام، وهذا يعطي الأمور أبعادًا أكثر منطقية، تراجع طفيف في المشروع في السنوات الأخيرة، حكم جيد ومنطقي ويمكن التعاطي معه، بدلاً من الحديث عن انهيار كامل في المشروع. 

كما أن تضمين الجوائز المالية والتأهل المستمر لدوري أبطال أوروبا يوضح بشكل مباشر العوائد المالية الكبيرة التي حققها نجاح سيميوني، هذا أمر بالغ الأهمية لفهم سبب اعتبار النادي، على الرغم من قيوده المالية الخاصة (مثل ديون الملعب الجديد)، يظل راتبه المرتفع استثماراً مجدياً، لأنه يؤكد أن قيمته تتجاوز مجرد النتائج الرياضية لتشمل بعض الفوائد الاقتصادية الملموسة، مما يجعل الاحتفاظ به قراراً مالياً عقلانياً، خاصة وأن هذا مرتبط أيضًا بنجاح على مستوى إدارة غرف الملابس والانتقالات. 

خطوتين إلى الوراء

صنع سيميوني أسطورته المبكرة على أرض الملعب بـقلعة دفاعيةٍ منيعة، حيث حوَّل “ركن الحافلة” إلى فنٍّ مقدسٍ أنتج انتصاراتٍ تدور أغلبها حول (1-0) كرصاصة في ميدان المعركة، كانت هذه الفلسفة ضرورةً وجودية في فترة من الفترات، لموازنة تفوُّق العمالقة المالي، خاصة بعد تحويلها الملعب إلى سجنٍ مغلق تختَنق فيه هجماتُ الخصوم، لكنَّ العبقرية الحقيقية لم تكن في تشييد القلعة، بل في جرأته على تفجيرها حين أدرك أن الزمن يتغير. 

فمع انطلاق عام 2018، شهد “التشولو” تحولاً جذريًا نحو كرةٍ هجوميةٍ تتنفس بـ”رئة الاستحواذ”، مستعينًا بجنودٍ جددٍ مثل ليمار وسواريز وفيلكس، هذه الثورة بلغت ذروتها بلقب الليغا 2021، ثم تسارعت نحو مستوىً غير مسبوق: ضغطٌ عالٍ كالإعصار، وهجماتٌ ساحقةٌ حطمت الأرقام القياسية بـ 14 فوزًا متتاليًا هذه السنة، ولذلك فقد تجاوز الفريق كونه “مدافعًا شرسًا” ليصير فريقًا هجوميًا يرتدي عباءة الدفاع في كثير من الأحيان، وحين يشاء، فهل يُلام ساحرٌ يُعيد اختراع سحره من جديد كل عام؟ 

ولذلك فاتهام سيميوني بـ”الجمود التكتيكي”، لمجرد أنه “جمود تكتيكي”، هو خطيئة تحليلية تُغفل حقيقةً محورية: الرجل يُجسِّد فكرة “التطور كفلسفة وجود”، فقدرته الفذة على تقويض مبادئه الخاصة، من الدفاع القاتل إلى الهجوم الشامل، تُثبت أنه بستان تكتيكي متجدد، هذه المرونة الجينية هي سرّ ثقة الإدارة فيه: فـ”أزمة” اليوم ليست سوى محطةٍ في رحلة تحوُّلٍ أعمق، ولذلك فالاحتفاظ يظل خيارًا أقلُّ خطورة من استبداله بمدربٍ متحجِّرٍ قد يحول قلعة الدفاع الأبرز والأهم في العالم إلى أطلال. 

خاصة وأن كل ذلك يتماس مع أزمات للاعبين طوال الوقت، حيث واجه أتلتيكو مدريد تحديات كبيرة على صعيد تشكيلة الفريق، وشهدت الفترة حول عام 2017 تقدمًا في عمر عدد من اللاعبين الرئيسيين أو انتقالهم إلى النادي “قبل بلوغ ذروة أدائهم”، وقد انعكس ذلك سلبًا على النتائج، مما أدى إلى “مواسم أقل قوة” بالنسبة للفريق، وعلى الرغم من الاستثمارات الكبيرة، مثل التعاقد مع جواو فيليكس مقابل “رقم قياسي للنادي بلغ 113 مليون جنيه إسترليني”، إلا أن أداءه لم يرقَ إلى التوقعات، وانتهى الأمر بخسارة النادي لأي أرباح محتملة من صفقته. 

ومع ذلك، ورغم هذه التحديات والقيود المالية، حيث اقتصر الإنفاق على ما لا يزيد عن 10 ملايين يورو في كل فترة انتقالات، واصل دييجو سيميوني العمل على دمج المواهب الشابة، وقد بدأت الجهود تؤتي ثمارها بالفعل، حيث برز عدد من اللاعبين الموهوبين من الأكاديمية مثل باريوس وريكيلمي وجوليانو، إلى جانب بعض الانتقالات الناجحة التي ساهمت في إعادة إحياء العقلية التنافسية للفريق، ويبرز هنا جوليان ألفاريز كحجر زاوية في المشروع الرياضي لأتلتيكو، مما يعزز الآمال بمستقبل واعد. 

وإذا نظرنا إلى الصورة الأكبر، نجد أن عهد سيميوني الطويل مرّ بمراحل متباينة: بدءًا من “العصر الذهبي” (2013-2017)، مرورًا بمرحلة “تراجع نسبي” (2017-2020)، ووصولًا إلى إحراز لقب الدوري مجددًا (2020-2023)، كما يمكن ربط “المواسم الأضعف” بشكل مباشر بتغييرات التشكيلة، سواء بسبب تقدم اللاعبين في السن أو انتقال المواهب الشابة، أما المرحلة الحالية (2023 حتى الآن) فتتميز بعودة قوية للمواهب المحلية وبعض الانتقالات ذكية، مما أعاد للفريق روحه القتالية وعقليته الصلبة.

وهذا يؤكد أن فترات التراجع تحت قيادة سيميوني لا تعني نهاية المشروع، بل هي جزء من دورة طبيعية في مسيرة طويلة، غالبًا ما تتزامن مع مراحل إعادة البناء، فتاريخيًا، أثبت المدرب قدرته على تجاوز الأزمات وتجديد الفريق بنجاح، كما حدث قبل لقب الدوري عام 2021 وما تُظهره المؤشرات الإيجابية الأخيرة. 

وبناءً على ذلك، يبدو أن وصف المشروع بأنه انتهى إكلينيكيًا، قد يكون متشائمًا أكثر من اللازم، خاصة في ضوء سجل سيميوني الحافل بالنجاحات، ولذلك فثقة الإدارة به ليست وليدة اللحظة، بل تستند إلى تجارب سابقة تثبت قدرته على قيادة الفريق عبر مراحل التحول الصعبة والعودة به إلى منصات المنافسة.  

ثلاث خطوات للوراء

حسنًا، كل ما سبق يمكن اعتباره مجرد تفنيد لرأي الإدارة نفسها في التجديد لسيميوني، ولذلك يمكننا القفز خطوة للأمام للحديث عن معضلة أخرى، ألا وهي معضلة الخلافة، حيث يواجه أتلتيكو أصعب معادلة استبدالٍ في أوروبا: كيف تعثر على خليفةٍ لسيميوني يجمع بين الولاء لفلسفة الهجوم المرتد وفهم تعقيدات النادي المالية والنفسية، ناهيك عن مطالبته بـتسجيل نتائج فورية؟ هذه المعايير ليست مرتفعةً فحسب، بل تتحدى منطق كرة القدم الحديثة أصلًا، فمن يستطيع حمل هذه الشعلة بعد رحيله؟ 

خاصة وأن الأسماء اللامعة مثل جوارديولا وكلوب وإنريكي مجرد خيال جميل، ولكنه خيالٌ لا تصدقه حسابات البنك، ولا تصدقه انتماءات هؤلاء المدربين أصلًا، بينما تلاميذ النادي العائدون مثل جابي، وتوريس، يمتلكون القلبَ فعلًا، لكن تنقصهم الخبرة المادية لقيادة سفينةٍ قصيرة النفس في أعاصير الليجا، حتى البدائل الأكثر منطقية مثل مورينيو أو إنزاجي أو إيمري يحملون مخاطر تشويه الهوية أو عدم فهم جين أتليتكو الفريد، وهنا تكمن الكارثة فعلًا، سيميوني صار مقبرة خرافية لكل من يحاول الاقتراب منه.

فالرجل نسج من الانضباط التكتيكي والكاريزما الآسرة والاستقرار الأسطوري عقداً لا يُكسَر بسهولة، وأي استبدال يعني مجازفةً بـالتنظيم كاملًا، ومن الممكن الوصول إلى تشويهٍ للهوية أو انهيارٍ للأداء، كما حدث لأندية انهارت بعد رحيل رموزها، هذه الحقيقة تُشل الإدارة وتجعل الخوف من المستقبل ومن المجهول أقوى من شجاعة التغيير، هنا يصبح الرهان الأكثر أمانًا هو البقاء مع الشيطان نفسه، إن كان معروفًا، بدلًا من مواجهة ملاك مجهول، قد يُكلفُ الملايين ويُهدرُ إرث ثابت ومستقر منذ سنوات طويلة. 

وهنا ينكشفُ التناقضُ الوجودي، فـالاستقرار الذي صنعه سيميوني تحوّل إلى سجنٍ مذهبٍ يخاف النادي من هدم جدرانه، وتلك هي معضلةُ “المؤسس الذي يأكل أبناءه”، فكلُّ عَظَمةٍ تخلقُ إرثاً يُشلُّ حركةَ التغيير، وكلُّ أسطورةٍ تُنتجُ خوفاً من السقوط في هاويةِ اليوم التالي، أتلتيكو هنا كـملكٍ شيخٍ يرفض التخلي عن العرش خشيةَ أن تتحول المملكة إلى فوضى، هذه اللعنة التاريخية التي يصير البطلُ فيها حاجزاً أمام التجديد، تُذكرنا بمصير روما بعد قيصر، أو مانشستر يونايتد بعد السير أليكس فيرجسون، فهل تُقتلُ الحيويةُ المؤسسيةُ على مذبحِ التقديس؟

فالخوفُ من الفراغِ ليس ضعفاً، بل إدراكٌ لهشاشةِ البناء الحديث، ففي عصرِ كرةِ القدم السائلة، حيثُ التغييرُ هو الثابتُ الوحيد، يصيرُ تمسُّكُ أتلتيكو بسيميوني تمرداً على عولمةِ النسيان، إنه احتفاءٌ بالبطء كقيمةٍ مضادةٍ لـ”الاستهلاك السريع” للمدربين، ولذلك لا يُدافع النادي عن مدربه بقدر ما يُدافع عن حقّ المؤسسات في الاحتفاظ بذاكرتها الجينية. 

أو على حد قول الشاعر أبو الحسن ابن الرومي: “وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ، مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا”، فالهويةُ ليست شعاراً يُرفع، بل حمضٌ نوويٌّ يُورَّث، وإلا تحولت الأندية إلى سوبر ماركت تكتيكي، ولكن هذا الاختيارُ الوجودي يطرح سؤالاً جوهريًا أيضًا: هل كرةُ القدم مجرد مشاريع أرباح أم سرديات تاريخية؟

أربع خطوات للأمام 

لا، ليست لدينا إجابة واضحة عن السؤال السابق، خاصة وأن هذه الحالة ترتبط مباشرة بمفهوم ظل حائرًا لسنوات طويلة في علم النفس، وهو مفهوم “الجمود النفسي” (The Rigidity-Entropy Complex)، والذي يرتبط ارتباطًا مباشرًا بميل الإنسان الفطري للحفاظ على الوضع الراهن، وهو ما يُعرف بأنه “نقص الدافع النفسي للتغيير”، هو ليس مجرد تفضيل بسيط للحالة الراهنة، بل يتجاوز ذلك ليصبح قوة فاعلة تمنع أي إجراء ينحرف عن الحالة الحالية على وجه التحديد. 

وهذا التمايز جوهري في فهم الحالة كليةً؛ فالجمود النفسي ليس مجرد تحيز سلبي، بل هو مقاومة نشطة للتغيير، مدفوعة غالبًا برغبة عميقة في تجنب المجهول والمستقبل، خاصة وأن الراحة المستمدة من المألوف، حتى لو كان دون المستوى الأمثل، يمكن أن تتحول إلى حاجز ذاتي التعزيز يمنع استكشاف بدائل قد تكون أفضل، ولذلك فهي ليست مجرد تفضيل سلبي، بل مقاومة نشطة لأي اضطراب، حتى لو كان مفيدًا. 

وتتجلى هذه الظاهرة بوضوح في سياقات إدارة التغيير التنظيمي، حيث يُعد هذا الجمود ظاهرة موثقة جيدًا في إدارة التغيير داخل مكان العمل، إن أي محاولة لإحداث تغيير في مثل هذه البيئات تولد ‘القلق والخوف نتيجة لأي نوع من التغيير، هذا يشير إلى أن المقاومة ليست منطقية بحتة، بل هي متجذرة في مكون عاطفي عميق. 

هذا المكون العاطفي يحول “الوضع الراهن” من مجرد حالة مستقرة إلى منطقة راحة نفسية قوية وعميقة، وبمجرد ترسيخها، تمارس هذه المنطقة الآمنة جاذبية هائلة على الجميع، مما يجعل أي انحراف عنها يبدو وكأنه معركة شاقة ضد قوى نفسية متأصلة، فالمؤسسة، مثل الجسم المادي، تقاوم التغييرات في حالتها الحركية أو السكونية، لذا، فإن الإدارة الناجحة للتغيير لا تتطلب فقط عرض الفوائد المنطقية للتغيير، بل تتطلب أيضًا معالجة الحواجز النفسية والعاطفية العميقة المرتبطة بالنظام القائم.

في سياق أتلتيكو مدريد، يتجسد مفهوم الجمود النفسي بشكل ملموس من خلال فترة قيادة دييجو سيميوني الاستثنائية، فلقد كان سيميوني في النادي لفترة أطول مما يمكن لأي شخص أن يتخيله على الإطلاق، وبحلول عام 2027، نهاية عقده، سيكون قد أكمل “16 عامًا” في منصبه، مما يجعله “أحد المدربين الأطول خدمة في تاريخ كرة القدم الأوروبية، هذه المدة غير المسبوقة تمنح تأثيره عمقًا فريدًا.

خلال هذه الفترة الطويلة، لم يقتصر تأثيره على الجانب التكتيكي فحسب، بل امتد ليشمل “الإطار التشغيلي الكامل للنادي، من فلسفته التكتيكية واستراتيجيات التعاقد مع اللاعبين إلى مشاركة الجماهير وثقافته الداخلية، وهذا يشير إلى أن سيميوني لم يكن مجرد مدرب، بل كان مهندسًا لهوية النادي، هذا الاندماج العميق يعني أنه أصبح ممثلًا لجوهر النادي نفسه، وبالتالي، فإن تغيير مدرب مثل سيميوني لا يعد مجرد قرار يتعلق بالموظفين، بل تحديًا وجوديًا لمفهوم النادي، لذاته ومبادئه التشغيلية الأساسية، مما يتطلب إعادة تعريف للهوية. 

خاصة وأن هذه المدة الطويلة من التأثير إلى عملت على خلق عادة تنظيمية راسخة بعمق ومنطقة راحة كبيرة لجميع أصحاب المصلحة، وعززت عادة تنظيمية عميقة ومنطقة راحة سائدة داخل أروقة النادي، حيث تشكل النسيج التشغيلي والثقافي للنادي بالكامل من خلال وجوده وأساليبه،  هذا الوضع يمثل المسار الأقل مقاومة، نفسيًا، ليس فقط للأفراد، بل للمؤسسة بأكملها. فالنظام القائم أصبح هو الخيار الافتراضي، لأن أي انحراف عنه يبدو شاقاً ومجهدًا. 

هذا التفضيل “العقلاني (وإن كان قد يكون محدوداً) للاستقرار المعروف على الاضطراب يصبح خيارًا جماعيًا لا واعيًا، كما إن كسر هذه العادة المتجذرة بعمق يتطلب جهدًا هائلاً، ليس فقط في العثور على مدرب جديد، بل في إعادة تشكيل هوية النادي وعملياته بشكل أساسي، كما  أن الفوائد المتصورة للتغيير يجب أن تكون واضحة ومقنعة بشكل ساحق للتغلب على الراحة والألفة للنظام القائم، خاصة عندما لا تزال الحالة الحالية، على الرغم من “الإخفاقات” المتصورة، تحقق مشاركات دائمة في دوري أبطال أوروبا إضافة إلى بعض الصحة المالية. 

ولذلك فإقالة سيميوني لن تكون مجرد تغيير تكتيكي، بل صدمة نفسية عميقة للنظام بأكمله، وهذا يرفع مستوى النقاش إلى ما هو أبعد من السطحية، إذا يوصف تغيير القيادة بأنه صدمة نفسية عميقة للنظام بأكمله، بدلاً من مجرد تحول تكتيكي، خاصة وأن الحالة الراهنة، رغم استقرارها الظاهري، هشة بطبيعتها، واستقرارها يعتمد بشكل جذري على وجود هذه المرساة، وإزالة المرساة من اللعبة، لا تهدد بالاضطراب فحسب، بل بانهيار التوازن القائم، وتخاطر بتعطيل ثقافة الفريق الراسخة، وتقويض معنويات اللاعبين، وفقدان القوة التحفيزية التي يجسدها سيميوني.

ولذلك أيضُا فرحيله لا يتعلق فقط بخسارة المباريات أو الأموال فقط كما جرت العادة؛ بل يتعلق بفقدان هوية النادي وروحه، والخوف ليس من الفشل فحسب، بل من التحول إلى شيء مختلف وغير معروف، وهذا يرفع النقاش إلى مستوى فلسفي حول الهوية التنظيمية والغرض من الوجود، وبالتالي، فإن قرار الانفصال عن سيميوني سيكون محفوفًا بأسئلة وجودية عميقة للنادي، مما يجبره على مواجهة تعريفه لذاته مرة أخرى. 

حركة دائمة 

إن الميل البشري المتأصل نحو المسار الأقل مقاومة، نفسياً، والحفاظ على الوضع الراهن يرسخ حقيقة إنسانية أخرى، خاصة وأن منطقة “الراحة” المزعومة تلك، ليست بالضرورة رضًا عن النفس، بل مجرد تفضيل عقلاني (وإن كان محدودًا) للاستقرار المعروف على الاضطراب غير المؤكد، ومع ذلك، ففي عالم دائم التغير، فإن الرغبة في الثبات هي وهم كبير. 

فالحقيقة أن أي نظام حي، في حالة تدفق مستمر، توفر فيه منطقة الراحة راحة مؤقتة، لكن الحقائق الخارجية مثل المنافسة، والتطور تتطلب في النهاية تكيفًا مع الأوضاع الجديدة، ما يعني أن الجنوح إلى الثبات وعدم الحركة والعقلانية، على الرغم من كونه مفهومًا، يمكن أن يصبح غير عقلاني إذا أدى إلى الركود في بيئة متغيرة، وهذا يشير أيضًا إلى أن المرونة التنظيمية الحقيقية لا تكمن في الحفاظ على الاستقرار المطلق، بل في تطوير القدرة على التكيف مع التغير الدائم، ثم الحفاظ على الهوية الأساسية.

التحدي الفلسفي هنا يكمن في كيفية إدارة هذا التحول، كيف يمكن التخلص من الجلد القديم دون فقدان الشفرة الوراثية الأساسية التي تحدد نوع الجنين، ولذلك فمستقبل أتلتيكو مدريد، بل وأي منظمة تواجه مثل هذا الانتقال القيادي العميق، يتوقف على قدرتها على اجتياز هذه الرحلة الوجودية لإعادة تعريف الذات، والموازنة بين الحفاظ على روحها الأساسية وضرورة التطور، والله من وراء القصد.