السيناريو الاسكتلندي يلوح في الأفق: هل بلغ أرسنال أقصى طاقاته تحت قيادة أرتيتا؟

السيناريو الاسكتلندي يلوح في الأفق: هل بلغ أرسنال أقصى طاقاته تحت قيادة أرتيتا؟

بالنسبة لديفيد مويس، المدير الفني السابق لمانشستر يونايتد، فالإجابة “نعم” بكل تأكيد، لقد وصل أرسنال إلى الحافة مع أرتيتا، والمشروع لم يعد يقدم الجديد بعد خسارة كل البطولات منذ توليه، وما دخل ديفيد مويس؟ سؤال جيد للغاية؛ ففي عالم كرة القدم، تُقاس الأعمار بالبطولات، وتُدفن الأحلام تحت أقدام النتائج، وعادةً ما تموت قصص أولئك الذين آمنوا بالمشاريع طويلة الأمد، ثم سقطوا قبل قطف الثمار. 

ديفيد مويس، المدرب الأسكتلندي الذي حمل شعلة مانشستر يونايتد بعد أليكس فيرجسون، كان واحد من أولئك، إذ سقط عن صهوة جواده بغتةً رغم فترة بناء طويلة وُصفت بالضرورية، وبعد عقدٍ من الزمن، يقف ميكل أرتيتا على مفترق طرقٍ مُشابه: إما أن يُكمل مسيرة البناء الضرورية، أو يُصبح ضحية جديدة لأوهام أكبر، نعم؛ فكلاهما بدأ رحلته بخطابٍ مليء بالوعود عن مشروع متكامل، وكلاهما أيضًا تعرّض لسخرية الجماهير حين تحوّلت الهزائم إلى روتين، فهل يُشبه مصير أرتيتا مصير مويس؟ 

هذا ليس سؤالًا عن المدربين فحسب، بل عن فلسفة كرة القدم نفسها، عن قيمة الصبر والتحمل والجمال، وبناء درجات السلم درجة درجة، بناءٌ يحمل داخله سؤالا أعمق: هل أصبحت الأندية الكبرى تُفضل النجاح السريع على الصبر الثوري؟ وهل يُمكن لمدربٍ شابٍ أن ينجو من سكين النتائج في عصرٍ يُقدّس الإنجاز الملموس؟

اختلاف القيمة

لا، فالأمر ليس متشابهًا بين مويس وميكيل أرتيتا كما أوحت لك المقدمة، ففي حين بدا مويس ضائعًا، وحاول فرض أسلوبٍ دفاعي تقليدي على فريق اعتاد الهيمنة الهجومية، جاء ميكل أرتيتا إلى أرسنال بخطةٍ واضحة: كرة هجومية مُنظمة تعتمد على التمريرات القصيرة السريعة والضغط العالي، مع قدرة على التكيّف مع أدوار اللاعبين. 

在 Instagram 查看这篇帖子 365Scoresarabic (@365scoresarabic) 分享的帖子

وبينما فشل مويس في فهم تركة فيرجسون، نجح أرتيتا في تحويل تركة فينجر من عبءٍ إلى إرثٍ يُبنى عليه، وبينما واجه مويس انتقادات لاذعة بسبب علاقته المتوترة مع نجوم اليونايتد مثل روني وفان بيرسي، حوّل أرتيتا المشككين إلى حلفاء، مارتن أوديجارد، الذي كان يُعتبر موهبةً ضائعة في ريال مدريد، أصبح قائدًا تحت قيادته، وحتى اللاعبون المُعارضون لخططه مثل أوباميانج غادروا النادي دون ضجيج يُذكر، ولذلك  الفارق هنا ليس في الشخصية وحدها، بل في القدرة على تحويل الأزمات القاسية إلى فرص.

ففي موسمه مع اليونايتد، أظهر مويس ارتباكًا في التعامل مع الإعلام والجماهير، مثل تصريحه الشهير: “نطمح لأن نلعب كليفربول!”، الذي اعتُبر اعترافًا بالضعف، وعلى العكس، حافظ أرتيتا على رباطة جأشه حتى في أسوأ لحظات أرسنال، مؤكدًا وفي أكثر من موضع، أن المشروع أكبر من النتيجة، أما الفارق الأكبر فيكمن في ثقة النادي، حيث تخلى اليونايتد عن مويس بعد 10 أشهر فقط، بينما منح أرسنال أرتيتا وقتًا ثمينًا لإصلاح البنية التحتية مثل تطوير أكاديمية الشباب وإعادة هيكلة القطاع الطبي.

ولذلك حتى الهزائم لم تُضعف إيمان مجلس الإدارة بأن المدرب الشاب يستحق فرصة ثانية، وهو ما حوّل أرتيتا إلى استثمار ناجح، ولذلك دعنا نقول ببساطة أن مويس جاء لإطفاء الحرائق في اليونايتد، ففشل، وأرتيتا جاء لبناء نظام في أرسنال، فأعاد تعريف هوية الفريق، وجعل خصوم أرسنال يعترفون بأنهم يواجهون آلة تكتيكية مُتماسكة، هذا الفارق الجوهري هو ما يجعل السيناريو الأسكتلندي قصة قديمة، ومشروع أرسنال مستقبلًا مختلفًا، ولكن هل يمكن الاستمرار في سكة البناء دون النظر إلى النتائج؟ 

ربما لا، وربما نعم، ولذلك دعنا ننظر إلى رأي الجماهير نفسها، ولا تقلق، فقد أنجز موقع “ذي أثليتيك” مشكورًا تلك المهمة، ونشر في تقرير بتاريخ مايو 2025، استطلاع لآراء أكثر من 6000 مشجع عن أداء أرسنال الحالي عبر 10 أسئلة فقط، وجاءت النتائج كالتالي: 55% من الجماهير رأوا أن أداء الفريق كان على المستوى المطلوب بالنظر إلى الإصابات، وهي نفس النسبة التي رأت أن أكبر مشكلة أثرت على الفريق هذا الموسم هي الإصابات أيضًا. 

وهي إجابات تبدو أقرب إلى الواقع، فغياب عددٍ كبيرٍ من اللاعبين لشهورٍ طويلة خلق حالةً من الارتجال القسري، وحول الفريق إلى نسخةٍ باهتةٍ من نفسه، يعتمد على الحلول المؤقتة والاختيارات المحدودة، خاصة مع وجود 27 إصابة مختلفة، توزعت بين غيابات طويلة ومتقطعة، وشملت معظم اللاعبين الأساسيين، كما خضع معظم المصابين إلى عمليات جراحية مُرهقة، حولت الفريق إلى غرفة طوارئ في مستشفى ميداني. 

هذا الوضع المأساوي انعكس بشكل مباشر على أرض الملعب، حيث أن نقص الخيارات على دكة البدلاء أجبر المدرب على الاعتماد على اللاعبين الأساسيين حتى الإرهاق، بينما اضطر الفريق للعب بعشرة لاعبين في أكثر من مناسبةٍ بسبب الإصابات المباشرة أثناء المباراة نفسها، تلك هي الحقيقة: أن الفريق عانى ما هو أكبر منه طوال الفترة الماضية، ورغم ذلك أبلى بلاء حسنًا في معظم البطولات، وهو ما جعل أرتيتا نفسه يحصل على ما متوسطه حوالي 7.5 من 10 على أدائه في الموسم الحالي، وهو تقييم جيد جدًا. 

ولكنها أيضًا درجة تعكس تناقضًا بين الانتقادات الخارجية والدعم الداخلي، فمن جهة، يرى محللون مثل جاري نيفيل أن استمرار أرتيتا دون تحقيق ألقاب خلال خمس سنوات يُشكك في جدوى المشروع، من جهة أخرى، يُظهر النادي ثقته الكاملة، خاصةً في طريقة تعامله مع التحديات اليومية، والعقوبات التأديبية. 

هذا الدعم الداخلي لا يعتمد على النتائج فحسب، بل على رؤيةٍ طويلة المدى تُقيّم عوامل مثل: 

تطوير الشباب (ساكا، مارتينيلي، أوديجارد). 

تحسين البنية التحتية (التعاون مع الأكاديمية، تحديث المنشآت الطبية). 

الحفاظ على استقرار الفريق رغم الضغوط الإعلامية. 

أما عن تقييم أرتيتا الذاتي، فمن المرجح أنه يرى الأداء ضمن سياق “مشروع تحت التطوير”، حيثُ الأولوية لإصلاح هيكل النادي بأكمله، وليس الفوز السريع، لكن يبقى السؤال: هل يمكن فصل النتائج عن التقييمات في عالم كرة القدم الحديث؟ خاصة مع تصاعد الضغوط لتحويل “الوعود” إلى ألقاب ملموسة.

شعرة الحصان 

شئ آخر لافت للنظر في ذلك الاستبيان ألا وهو عدم اكتساح نتائج دوري الأبطال في إجابة سؤال: ما هو أكثر شيء إيجابي خرج به الفريق هذا الموسم؟ إذ حصل الصعود إلى نصف نهائي دوري الأبطال على 54% فقط، بينما جاء في المركز الثاني برصيد 40%، وهي نسبة كبيرة جدًا، ظهور لويس سكيلي المميز في تشكيل الفريق، وتلك هي بالضبط معركة الوعي التي يريد كسبها أي مدير فني لصالحه. 

فمن جهة أضاف مشوار أرسنال في دوري أبطال أوروبا بُعدًا جديدًا لتقييم الموسم، وقدّم الفريق عروضًا لا تُنسى، ولم تكن الانتصارات الكبيرة مثل الفوز 5-1 على سبورتنج لشبونة خارج الديار و7-1 على آيندهوفن أو هزيمة ريال مدريد مجرد أرقام،  بل علامة على تحوّل نفسي في ثقة الفريق بنفسه، خاصة في موسمه الثاني بعد العودة للبطولة الأوروبية، ورغم خسارة نصف النهائي أمام باريس سان جيرمان، إلا أن اللقاء شهد لحظات فردية متميزة أثارت حماس الجماهير وأكّدت قدرة أرسنال على المنافسة في المستوى القاري.

ميكيل أرتيتا – أرسنال
(المصدر:Gettyimages)

لكن هذا التقييم لم ينسي الجماهير الأصل في اللعبة، ألا وهم اللاعبين، ومدى قدرة المدرب على تطويرهم، وفي ذلك حدث ولا حرج؛ حيثُ قدم لويس سكيلي ونوانيري أداءاتٍ عززت فخر الجماهير بتطور الشباب، وهو ما يعكس نجاح سياسة النادي في دمج المواهب الصاعدة مع الخبرات القائمة فعلًا، كما أن هذه الخطوة لم تُثر الإعجاب محليًا فحسب، بل وضعت أرسنال في مصاف الأندية التي تعتمد على خليطٍ متوازن بين الشباب والنجوم، وذلك، صدق أو لا تصدق؛ الجزء الأهم في عملية النجاح.

القدرة على بناء الإنسان قبل بناء النتائج، لأن بناء الإنسان يؤدي إلى بناء الفريق، وبناء الفريق يؤدي حتمًا  إلى النتائج، والفارق الجوهري بينهما يكمن في الزمن والعمق، فبناء اللاعبين عملية تراكمية تعتمد على تطوير المهارات الفردية، وتعزيز اللياقة البدنية، وصقل الذكاء التكتيكي، مع توفير بيئة داعمة للنمو النفسي والجماعي، وهذه العملية تشبه تشييد مبنىً بأساسات متينة؛ كل لبنة تُضاف بحرص لضمان الاستدامة، وهو ما يفعله أرتيتا فعلًا، ليس على المستوى التكتيكي فحسب، بل على المستوى الشخصي أيضًا، عن طريق جعل اللاعبين أشخاصًا أفضل، وتعزيز روح التعاون بينهم بعدة أشياء مثل “حفلات الشواء الجماعية”، فاللاعب الذي يشعر بأنه جزء من سرديةٍ إنسانية، يُصبح أكثر استعدادًا للتضحية في الملعب. 

أما بناء النتائج، فيركز على تحقيق أهداف سريعة عبر استراتيجيات قصيرة المدى، كالاعتماد على الصفقات الفاخرة أو التكتيكات الدفاعية، والتي قد تؤدي إلى نتائج فاخرة في الوقت الحالي، لكنها هشة كـشعرة حصان حادة، تلمع من خارجها، لكنها ستقطع بسرعة عند أول اختبار حقيقي إذا لم تُدعم ببنية لاعبين قوية، فعندما تُقدَّم النتائج على بناء اللاعبين، يصبح الفريق كـسفينة بلا شراع؛ قد تطفو لوهلة، لكنها تغوص عند أول عاصفة، ولذلك، فالفرق العظيمة هي التي تجعل من بناء اللاعبين جذورًا تغذي شجرة النتائج، لا العكس.

صدفة واحدة قد تكفي

لكل ما سبق، لم يزل أرتيتا يحظى بدعم مجلس الإدارة بعد توقيعه عقدًا جديدًا حتى 2028، وبدعم الجماهير رغم الجفاف التتويجي، خاصة وأن هناك تحسن كبير فعلًا  يُبرر الثقة: من منتصف الجدول إلى منافس دائم على الصدارة، كما أن الظروف القاسية هذا الموسم (27 إصابة، خوض مباريات بعشرة لاعبين) تُستخدم كعذرٍ مقنع للجماهير، لكن السؤال يظل قائمًا: هل يصبح 6 سنوات بدلا من 5 سنوات؟

من جهته، يُكرر أرتيتا تحليله الجديد القديم: “دوري الأبطال يُحسم بلحظة فردية سحرية”، نفس الكلمات التي قالها بعد الخروج أمام بايرن ميونخ الموسم الماضي، لكن المشكلة تكمن في  أن أرسنال يفتقد صانع تلك اللحظات، خاصة مع اعتماده على مجموعة شابة، وهنا تكمن المفارقة: العمود الفقري للفريق قويٌ كفاية للوصول إلى النهائيات، لكنه هشٌ بما يكفي لإطلاق رصاصة الرحمة، ففي مواجهة باريس سان جيرمان، لم تكن المشكلة في الهجوم أو الدفاع، بل في غياب “القاتل البارد” الذي يُنهي المباريات بطلقة واحدة.

رغم ذلك، يبدو أرتيتا واعيًا بالمعادلة الصعبة، خاصة وأن تصريحاته الأخيرة عن “الحاجة إلى الشجاعة” تُظهر إدراكه أن الوقت لم يعد حليفًا جيدًا، والموسم القادم لن يكون مجرد موسم للمنافسةٍ على الألقاب، بل اختبارًا لـ”قدرة الفريق على اختراق الحاجز النفسي” الذي يحوّل الهزائم إلى عقدةٍ مزمنة.

ولذلك فالنهاية القوية لهذا الموسم، والانتقالات الصيفية الذكية، قد تُعيد كتابة السردية من جديد، لكن إن فشل أرسنال مرة أخرى، حتى ولو بفارق ضئيل، فسيصبح الحديث عن “المشروع” مجرد صدىً لخطابٍ فقد مصداقيته، ولذلك فأرتيتا يعرف أيضًا أن الموسم القادم هو محكّه الحقيقي، واللحظة السحرية التي يتحدث عنها قد تكون هدفًا في الشباك، أو إقالةً مفاجئة، فـ”السيناريو الأسكتلندي” ليس أسطورة، بل ذكرى لا تزال حية، وكل ما تحتاجه لتعود إلى الواجهة هو موسم صفري آخر, 

موسم قد لا يعبر عن الفشل، فأرتيتا ناجح بكل المقاييس المنطقية والإنسانية، وصدق أو لا تصدق، لا فارق كبير بين من حصد 89 نقطة وبين من حصد 91 نقطة، إلا قطعة ذهبية تُشيب رؤوس الولدان، وتغرق الجميع في هوة سحيقة من اللامنطقية. 

“أريد إثارة، أريد متعة، أريد أن أظل على طرف مقعدي طوال المباراة”. 

أليكس فيرجسون متحدثًا عن الغرض الرئيسي من اللعبة.