أ. مروة معتز زمر: التربية الانفعالية والتّاءات السّامة: هل نَحن نربي أم نتفاعل؟

أ. مروة معتز زمر
التربية الانفعالية: تفاعل أم اضطراب؟
التربية الانفعالية تعني اتخاذ القرارات التربوية بناءً على المشاعر اللحظية (مثل الغضب، القلق، الإحباط)، وليس على مبادئ تربوية مدروسة، فغالباً ما تكون غير متَّسِقة، حيث يتفاعل الأهل بشكل مختلف مع نفس السلوك في أوقات مختلفة، حسب حالتهم النفسية، مما يخلق ارتباكاً لدى الطفل.
لنكن واقعيين فإنَّ الانفعالات جزء من الطبيعة البشرية، الانفعالات مثل الغضب أو القلق هي ردود فعل طبيعية لمواقف معينة، وقد تكون مفيدة في بعض الأحيان لتوجيه الطفل بشكل سريع وخصوصاً في مواقف الخطر ولكنها تصبح اضطراب تربوي عندما تصبح متكررة ومبالغ فيها ويكون الهدف منها تفريغ انفعالات الأهل بدلاً من توجيه الطفل.
التّاءات السامة في التربية ماهي و كيف تدمر نفسية الطفل؟
هناك أنماط تربوية سلبية تتكرر في البيوت تؤثر بشكل خطير على البناء النفسي للطفل، يمكن تلخيصها فيما يُعرف بـ (التّاءات السامة) ، وهي:
التَّهديد: استخدام التهديد كأسلوب للسيطرة يخلق بيئة من الخوف والقلق، مما يؤدي إلى انخفاض تقدير الذات واضطرابات في الشخصية، وفقاً لـ نظرية التحفيز الذاتي، فإن التهديد يعيق إشباع الحاجات النفسية الأساسية للطفل (الاستقلالية، الكفاءة، والانتماء)، مما يؤثر سلباً على تحفيزه ونموه النفسي.
التَّقريع: وهو اللَّوم الدائم وإشعار الطفل بالذنب مما يزرع فيه مشاعر العجز وتراجع الدافعية نحو الإنجاز، وفقاً لـ نظرية النموذج العقلي لكارول دويك، فإن الطفل سيتبنى عقلية ثابتة بسبب التعرض للَّوم المتكرر، مما يضعف إيمانه بقدرته على التطور وتحقيق النجاح.
التّجاهل: عندما يتعرض الطفل للتجاهل العاطفي، فإنه يطور أنماط التعلق القلق أو التجنبي، مما يؤثر على قدرته على بناء علاقات سليمة في المستقبل، التجاهل لا يعني فقط إهمال احتياجات الطفل العاطفية، بل يشمل أيضاً عدم الاعتراف بمشاعره، مما يجعله يشعر بأنه غير مرئي أو غير مهم، ويؤثر على ثقته بنفسه.
التّعنيف (الجسدي والمعنوي): أثبتت دراسات متعددة في علم الأعصاب التربوي أن العنف يغير البنية الدماغية للأطفال، مما يزيد من احتمالية تطويرهم لسلوكيات عدوانية أو اكتئابية، التعنيف اللفظي، مثل الإهانات والاستهزاء، قد يكون له أثر مدمر على الهوية الذاتية للطفل، مما يجعله يحمل مشاعر سلبية تجاه ذاته حتى في مرحلة البلوغ.
التّدليل المفرط: على عكس ما يظنه البعض، فإن الإفراط في الحماية يمنع الطفل من تطوير الاستقلالية ويجعله غير قادر على مواجهة التحديات، الأطفال الذين ينشأون في بيئة توفر لهم كل شيء دون أي جهد يبذلونه يجدون صعوبة في تحمل المسؤولية والاعتماد على أنفسهم، مما يجعلهم أكثر عرضة للإحباط عند مواجهة الفشل.
التّذبذب: القرارات غير المتسقة تجعل الطفل يعيش في حالة ارتباك مستمرة، مما يؤثر على استقراره النفسي وقدرته على اتخاذ قرارات سليمة في المستقبل، عندما يتغير الأسلوب التربوي من الحزم إلى التساهل بشكل غير متوقع، لا يتعلم الطفل قواعد واضحة للسلوك، مما يخلق لديه شعوراً بعدم الأمان.
إذاً كيف تكون تربيتنا واعية و نوازن بين الحزم والاحتواء؟
الحل لا يكمن في كبت الانفعالات، بل في توجيهها بشكل صحي، تتطلب التربية الواعية إدراك الأهل لمشاعرهم وأثرها على سلوكهم التربوي، وفقاً لمفهوم الإدارك الذاتي العاطفي في علم النفس، فإن الأهل الذين يمارسون ضبط النفس في مواقف الغضب، ويستخدمون استراتيجيات مثل التنفس العميق والتفكير قبل الرَّد، يعززون بيئة أكثر أماناً للطفل.
بدلاً من التهديد، يمكن استخدام التواصل الإيجابي لتعزيز السلوكيات الجيدة، وبدلاً من التَّقريع يمكن تطبيق التعزيز الإيجابي، أي التَّركيز على سلوكيات الطفل الجيدة بدلاً من التركيز على أخطائه، أما في حالات التجاهل العاطفي، فالحل هو الاستجابة الفعّالة لمشاعر الطفل، كي يشعر بالأمان النفسي.
من المهم أن يدرك الأهل أن الحزم لا يعني القسوة، والاحتواء لا يعني التساهل، عندما يتعلم الأهل كيف يكونون ثابتين في قراراتهم مع الحفاظ على تعاطفهم، فإنهم يخلقون بيئة تعزز النمو النفسي الصحي لأطفالهم، الاستماع الفعّال للطفل، وإشراكه في القرارات المناسبة لعمره، يمنحه الشعور بالمسؤولية والثقة.
ولنسأل أنفسنا هل نحن نربي أطفالنا أم نلقي على هذا الكائن الصَّغير مخلَّفاتنا النفسية؟
هل نصرخ ونعاقب بشكل قاسٍ بسبب ضغوط خارجية؟
هل نرفع سقف توقعاتنا منهم و نطلب تحقيق أهداف لتعويض اخفاقاتنا الشخصية؟
هل نكرر أنماط التربية السلبية التي تلقيناها في طفولتنا؟
هل سنستمر في تمرير مخلفاتنا النفسية جيلاً تِلوَ جيل؟
لِنحمل مسؤوليتنا و نُرَبّي بعقلٍ، لا بانفعال..
إن التربية مسؤولية عميقة تتطلب منّا الوعي الذاتي والقدرة على التمييز بين ردود الأفعال العاطفية والأساليب التربوية المدروسة، التربية الفعّالة لا تعني السيطرة على الطفل، بل تعني تمكينه من النمو والتطور بشكل صحي وسليم، حين ندرك أثَر كلماتنا وسلوكياتنا على أطفالنا، ونستبدل التاءات السامة بأساليب دعم نفسية سليمة، نكون قد وضعنا أساساً قوياً لنموهم المتوازن.
التربية ليست مجرد استجابة للحظات الغضب أو السعادة، بل هي بناء طويل الأمد يتطلب حكمة واتزاناً، عندما نتحكم بانفعالاتنا ونوجهها بوعي، فإننا نساعد أطفالنا على بناء شخصية قوية، مستقلة، ومتزنة عاطفياً، لنكن نموذجاً يُحتذى به، ولنقدم لأطفالنا التربية التي يستحقونها، تربية قائمة على الحُب، الفهم، والتوازن.