باريس سان جيرمان بدون النجوم: فريق جديد.. فلسفة جديدة.. هوية جديدة

أهلًا بك، لطالما كان باريس سان جيرمان فريقًا عجيبًا، قوة مالية هائلة، وأزمات إدارية وهيكلية متكررة حولت الفريق إلى مسرح للدراما المأساوية، والضحكة في بعض الأحيان، والتي طغت على بريقه الرياضي، ففي غرفة الملابس، تحولت العلاقات بين النجوم إلى ساحات للحرب الباردة، فلم تكن الأضواء تسلط على الأداء الجماعي بقدر ما كانت تكشف عن صراعات النفوذ بين الأسماء الكبيرة، حيث بات كل نجم وكأنه فريق مستقل بذاته، أما على المستوى التكتيكي، فظل الفريق بلا بصمة واضحة، بل وربما تحول إلى لوحة يرسم عليها كل مدرب أحلامه ثم يرحل، دون أن يترك أي منهم إرثاً يستمر.
أما القرارات الإدارية، فحدث ولا حرج، حيث اتسمت بردود الأفعال العاطفية أكثر من التخطيط الاستراتيجي، صفقات بملايين اليوروهات تُجرى لأن اللاعب “نجم” فقط، ودون أي سؤال عن كيفية تكيفه مع الفريق، وقد ظلت تلك هي الخطة الوحيدة داخل النادي لسنوات، جمع الأسماء اللامعة، لا بناء فريق متجانس، وهو ما أثر أيضًا على المستوى الأوروبي، حيث تحول الفريق إلى نموذج للفرص الضائعة، موسم بعد آخر، يسقط العملاق الفرنسي بطريقة مأساوية، تاركًا الجماهير تتساءل: متى سيتعلم الفريق من أخطائه؟ وكل ذلك بالطبع، جعل من باريس وجبة دسمة للإعلام، خاصة وأن القصص عن الخلافات والتمردات كانت هي الأصل، وتحت كل هذه الطبقات، كانت هناك مشكلة أعمق: غياب الهوية، فريق بلا روح، بلا شخصية مميزة.
وفي خضم هذه العاصفة، جاء رجل واحد فقط يحمل رؤية مختلفة، هذا هو الثقل الذي حمله إنريكي على كتفيه عند وصوله لباريس، رجلٌ خرج من حفرة المنتخب الإسباني الرحبة إلى أنوار المدينة الباريسية الخانقة، حاملاً على عاتقه مهمةً شبه مستحيلة: أن يغرس بذور فلسفته في تربةٍ قاسيةٍ أبَتْ لسنين أن تنبت سوى الفوضى، لكن كل هذا لم يكن سوى المقدمة، فساحة المعركة الحقيقية كانت تنتظره خلف الأضواء، في ذلك المستطيل الأخضر حيث تُختبر العزائم، واجه إنريكي التحدي الأكبر: أن يجعل من فريقه المرقّط مرآةً لعقليته الصلبة، في مدينةٍ لم تعتدْ سوى على دراما النجومية وزئير الإعلام.
وبين مطرقة التوقعات العالية وسندان التقاليد الكروية العتيقة، بدأت رحلة الرجل الذي أتى ليكتب فصلًا جديدًا في تاريخ النادي، أو ليكون مجرد اسمٍ فاشل، آخر ففي باريس ، كما يعرف الجميع، لا مكان للوسطية: إما أن تصنع المجد، أو تصبح جزءًا من المشكلة، وهنا يبقى السؤال: هل نجح في ذلك فعلًا؟
مأساة ومهزلة
“اليوم أخطو برفقٍ أكثر، بعد أن ركضت لوقت طويل خوفًا من أن يفوتني شيء، وفاتني كل شيء!”.
محمود درويش.
مبدأيًا، يجب أن نفهم ما الذي أتى بنا إلى مرحلة انريكي الحالية، وكيف تطورت الأمور، بعدما بدأت بدأت الرحلة عام 2011 مع وصول الملاك الجدد، حاملين معهم حقائب مليئة بالطموح والأموال، ووعوداً بإضاءة سماء العاصمة الفرنسية بنجوم العالم، كما كشف مصدر من داخل النادي لـ “ذي أثليتيك“، أن تطور النادي جاء عبر أربع مراحل: أولها، كانت مرحلة امتلاك النادي والسيطرة عليه، حيث كانت السنوات الأولى أشبه بوضع اللبنات لقلعة شاهقة، فجاءت البداية من عند الاستقرار المالي، ثم التعاقدات الكبرى، وصولًا إلى الهيمنة المحلية، لكن القلعة، رغم جمالها، كانت تفتقد للدفء، والنجوم المتألقين في سماء باريس، بصيصهم لم يكن كافياً لإضاءة الطريق إلى المجد الأوروبي المنشود.
وهنا انتقلنا إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة يمكن تسميتها بـ “التعزيز الأوروبي عبر جذب النجوم”، وهي مرحلة طبيعية لأي نادي طموح، حيث أمسك النادي بخيوط الأحلام الكبيرة: نيمار، مبابي، وحتى الأسطورة ميسي، أسماءٌ كُتبت بحروف من ذهب على القمصان الزرقاء، لكن الأزمة، أن المدينة التي عرفت فنون الأناقة والجمال، اكتشفت أن النجوم وحدها لا تصنع فريقاً، فقد كان هناك مشاهد ساحرة، وأهداف تخطف الأنفاس، ولاعبين يزنون عدة روزنامات من الأموال، ولكن أيضاً كان هناك ظلالٌ طويلة لخلافات غرف الملابس، وإدارةٌ تائهة بين رغبات النجوم وضرورات الفريق، ولذلك قررت الإدارة الانتقال إلى المرحلة الثالثة.
ففي صباح أحد أيام يونيو 2022، استيقظ العالم على كلمات ناصر الخليفي في صحيفة “لو باريزيان“: “لقد انتهى عصر النجوم”، حيث اعتُبر ذلك تحذيرًا لميسي ونيمار وكيليان مبابي، وإشارة إلى ضرورة أن يبدأ نجوم النادي بالسير على خطى بقية الفريق، كانت الجملة أشبه بزجاجة عطرٍ كُسرت في الهواء، ناشرةً عبق التغيير، وهو ما حدث فعلًا، إذ بدأت معالم الخطة الجديدة تتشكل، فكانت مشاريع البنية التحتية مثل مركز التدريب الجديد، والاستقرار المالي، والمساهم الجديد، حيث استحوذت شركة الاستثمار الأمريكية Arctos Partners على حصة 12.5 في المائة من ملكية النادي في ديسمبر 2023، وقد تبلورت تلك المرحلة في:
مركز تدريبٍ جديد يُشيّد على ضواحي باريس، ليس مجرد منشأة رياضية، بل أكاديمية للأحلام.
الشباب سياسة مالية حذرة، بعد أن أصبح شبح عقوبات الاتحاد الأوروبي يخيم على الملاعب الأوروبية، حيث أعطى الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي لكرة القدم على “مانشستر سيتي” لمدة موسمين في فبراير/شباط 2020 بسبب انتهاكات قواعد اللعب المالي النظيف، دافعًا لباريس سان جيرمان إضافيًا لموازنة الحسابات من خلال التخلي عن اللاعبين ذوي الدخل المرتفع والاستثمار في الشباب، خشية أن يواجهوا مصيرًا مماثلاً.
عودةٌ إلى الجذور، عن طريق البحث عن المزيد من اللاعبين الفرنسيين، وكأنما النادي يبحث عن روحه المفقودة بين أزقة “مونمارتر”.
وبناء على ذلك، جاء تعيين كريستوف جالتييه، مدرب ليل الأسبق، كمدير فني للفريق، المدرب الصارم الذي لا يؤمن بالنجومية الفارغة، بل بالعمل الجاد والتكتيك الدقيق، ثم بجانبه، وقف لويس كامبوس، صائد المواهب الذي يتجول بين ملاعب أوروبا كفنانٍ يبحث عن الأحجار الكريمة، لم تنصفه النتائج، نعلم ذلك، لكن البذور التي زُرعت في صيف 2022 بدأت تُثمر سريعًا بعدة أسماء مثل نونو مينديز، وفيتينيا، وأسماء أخرى بدأت تكتب حكايتها الخاصة.
ومنذ ذلك الحين، والنادي يكرس سياسته الجديدة في كل موسم انتقالات:”11 شاباً تحت 22 عاماً”، ما أدي إلى مفارقة تثير الدهشة، فبينما انخفضت الإيرادات التجارية قليلاً من 400 إلى 391 مليون يورو، ارتفعت الإيرادات الإجمالية لتصل إلى 806 مليون يورو عام 2024، وللموسم الثالث على التوالي، هذه الأرقام لم تكن مجرد بيانات مالية، بل كانت رسالة مفادها أن النادي يسير في طريق مختلف، طريق يجمع بين العقلانية الاقتصادية والطموح الرياضي.
وعلى أرضية الملعب، كانت ثمار السياسة الجديدة تبدأ بالنضوج، ففي صيف 2023 شهد استمرار النهج الذي بدأه كامبوس قبل عام، حيث اختلطت النجاحات بخيبات الأمل، جاء ديمبيلي وباركولا وكانغ إن وراموس، بينما عانى آخرون مثل سكرينيار وأوجارتي وكولو مواني في التأقلم، لكن حتى في ظل هذه النتائج المتباينة، كان هناك إصرار واضح على المضي قدماً في هذا المسار، حتى أن وصول بعض المواهب الشابة والواعدة مثل باتشو ونيفيس ودويه وكفاراتسخيليا، كان انعكاسًا واضحًا للتحول الثقافي الحقيقي في كل شئ، حتى في نفوس الجماهير التي سئمت من استقطاب النجوم دون تحقيق المجد المنشود، رغم الرواتب الفلكية التي كانوا يتقاضونها، ولذلك فقلب هذه التحولات كله كان يدق في مكان واحد: اختيار الرجل الذي سيحمل على عاتقه مسؤولية قيادة هذه الثورة.
“لقد رأيت التغيير يأتي ببطء ولكن بثبات، لم تعد الصفقات تصدر عنها ضجة النجومية الكبيرة، بل أصبحت تحمل رسالة واضحة: روح الفريق أولاً، الشباب ثانياً، والطموح دائماً”.
آلان روش، أسطورة النادي في التسعينيات
فبعد جالتييه، كان القرار يتعلق بأكثر من مجرد مدرب، بل بفيلسوف كروي قادر على تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، الرجل الذي سيجمع بين حكمة الخبرة وحيوية الشباب، بين تقاليد النادي وطموحاته المستقبلية، في هذه اللحظة بالذات، كان مصير باريس سان جيرمان يتشكل، ليس في صفقات انتقالات أو تقارير مالية، بل في مكتب الإدارة حيث تُتخذ القرارات المصيرية التي ستحدد وجه النادي للسنوات القادمة، واليوم، بينما تتألق أنوار برج إيفل كل مساء، يكتب الفريق فصلاً جديداً من تاريخه، ليس فصل النجوم الوهّاجين، بل فصل العقلانية والاستدامة، فصلٌ يجمع بين أناقة العاصمة الفرنسية وحكمة البناء التدريجي، والسؤال الآن: هل ستكون هذه القصة الجديدة هي التي تحقق الحلم الأوروبي الذي طالما انتظرته مدينة الأنوار؟
زمن آخر
وهنا، في تلك المرحلة تحديدًا، برز اسم لويس انريكي، ليقف أعتاب مهمته الأكثر صعوبة، لم يكن مجرد مدرب جديد يأتي ليقود فريقاً، بل كان المهندس المكلّف ببناء عصر جديد بالكامل لباريس سان جيرمان، النادي الذي سئم من وهج النجوم العظماء الذين أضاءوا سمائه دون أن يمنحوه المجد الحقيقي، وقرر أخيراً أن يكتب فصلاً مختلفاً في تاريخه، والسر كان دائمًا يكمن في فلسفته التي طالما افتقدها النادي، حيث مر سبعة مدربين على القيادة منذ الاستحواذ القطري، كلهم حاولوا، لكن أحداً منهم لم ينجح في نحت هوية حقيقية، منهم من انغمس في السياسات الداخلية، ومنهم من اكتفى بالبراغماتية مثل جالتييه، حتى توماس توخيل تساءل يوماً وهو يغادر: “هل كنت مدرباً أم مجرد سياسي رياضي؟”.
ولذلك أُعدت الأدوات كلها بعناية فائقة لاستقباله: ملعب تدريبي جديد في “بواسي” بتكلفة 300 مليون يورو، ومجموعة من اللاعبين الجدد الذين جاؤوا يحملون في عقولهم توجيهات ناصر الخليفي الواضحة: “نريد مقاتلين يفخرون بارتداء القميص”، أما المفارقة الأكثر إثارة فظهرت خلال حفل تقديم إنريكي، فلم يتحدث الخليفي عن الألقاب أو الانتصارات، بل عن فلسفة جديدة: “إنه من أفضل المدربين في العالم بأسلوبه الهجومي المميز، ولذلك نريد أن نستمتع بكرة القدم أولاً”، فبالنسبة لرجل جاء إلى باريس سان جيرمان عام 2011 حالمًا بالفوز بدوري الأبطال خلال خمس سنوات فقط، فهذا تطور كبير في العقلية.
لكن الأحلام الكبيرة تحتاج إلى أسس متينة، وبعد اثني عشر عاماً، ها هو لويس إنريكي يخطو على أرضية صلبة بُنيت بعناية، في مهمة ليست سهلة على الإطلاق، بل أشبه بمحاولة نقل جبل من مكانه، ولذلك لم يكن باريس يبني أساساتٍ مجازية فحسب، بل على العكس، ففي غضون أسبوعين فقط من تعيين إنريكي، انتقل الفريق الأول إلى مقره الجديد في “مجمع باريس سان جيرمان” الفاخر، تلك التحفة المعمارية التي تمتد على مساحة 74 هكتاراً بتكلفة 300 مليون يورو، لتجمع فرعا النادي للرجال والسيدات مع أكاديمياتهما، بالإضافة إلى فرق كرة اليد والجودو، حتى تصميم غرفة الملابس جاء مختلفاً هذه المرة: في شكل بيضاوي لتعزيز الوحدة بين اللاعبين ولتمكين المدرب من أن يكون في قلب هذه الدائرة المتجانسة، ولذلك فهذا الانتقال الجغرافي سيرافقه أيضًا تحول أعمق في العقلية والروح.
انريكي كان يعرف ذلك جيدًا، ولذلك فقد حاول خلق هالة تتماشى والحالة المؤسسية الجديدة، ولذلك فقد أطلق كلماته الأولى في المؤتمر الصحفي الأول بفرنسية رصينة، ولا عجب في ذلك، إذ يمتلك الرجل ترسانةً لغوية حادة، تمكنه من الإمساك برسن الأرض التي سيحارب ويقدم عليها، ولذلك أيضًا رفض وجود المترجمين في ملاعب التدريب، واتخذ قرارًا جريئًا: تسجيل كل نبرة وكل همسة وكل توجيه للاعب، ثم ترجمة ذلك بدقةٍ، قبل أن تُقدَّم في رسالة صوتية لكل لاعب على حدا، وذلك قبل أن يقرر تعلم كل اللاعبين للغة الفرنسية.
حيث شارك النادي لقطات لسكرينيار وأسينسيو وهما يحضران دروسًا في اللغة الفرنسية بعد وقت قصير من وصولهما في صيف عام 2023، وقد أوضح الفيديو أن غالبية اللاعبين الأجانب في الفريق، بمن فيهم القائد ماركينيوس ومينديز وفيتينيا وجيانلويجي دوناروما وأشرف حكيمي، يشعرون بالراحة في التحدث بالفرنسية في الأماكن العامة، حيث كان في تلك الخطوات إصرارًا واضحًا من إنريكي على إغلاق كل ثغرة، ومنع أيّ سوء فهم، وكأنه يبني سورًا منيعًا من الأفكار المشتركة، ويرسم ملامح حقبة جديدة الفريق، حقبة تُؤسس على هوية كروية راسخة وأسلوب مميز، بعيداً عن ضجيج الإعلام والشعارات.
لقد كانت الرحلة باختصار هي رحلة التحول من حلم فردي إلى رؤية جماعية، من طموح شخصي إلى فلسفة مؤسسية، باريس سان جيرمان اليوم لم يعد ذلك النادي الذي عرفناه، بل أصبح كياناً مختلفاً يبنى على أسس جديدة من التناغم والوحدة والرؤية المشتركة، ولذلك فقد حقق انريكي في موسمه الأول انجازات هامة، رغم معارك كيليان مبابي الطويلة، ولم تكن الإنجازات مجرد أرقام في سجل النادي، بل كانت تحولًا جذريًا في الروح: لقب الدوري الذي انتزعه من بين أنياب موناكو، وكأس فرنسا بعد غياب ثلاث سنوات، وتخطيه “مجموعة الموت”، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في دوري الأبطال، حيث واجه بوروسيا دورتموند ونيوكاسل وميلان، قبل أن تنتهي الرحلة الأوروبية على يد الألمان في الدور قبل النهائي.
لكن الأهم من كل ذلك كان التحول الذي لا يُقاس بالأرقام، الفريق الذي كان أشبه بفرقة موسيقية تعزف نوتات متنافرة، أصبح فجأة سيمفونية متناغمة، والخليفي لم يترك مجالًا للشك عندما حذر لاعبيه في خطابه التحضيري: “المدرب هنا يملك السلطة المطلقة”. وكأنما كان يعلن نهاية عصر وبداية آخر، ولذلك انطلق إنريكي كعاصفة هادفة، وأرسى قوانينه الحديدية: الحضور الإلزامي للمقر قبل كل تدريب بغض النظر عن الإصابة، التدريبات الشاقة التي تختبر حدود التحمل، التناوب المستمر في المراكز لإبقاء الجميع في حالة تأهب، والتشكيلات المتغيرة التي لا تستثني أحدًا. حتى عندما سجل مبابي ثلاثية ضد ريمس، لم يتردد الإسباني في توجيه رسالته: “ما زال بإمكانك تقديم المزيد”.
الأساليب قاسية بعض الشئ؟ ربما، لكنها أساليب أثبتت جدواها، ولذلك فقد وجدت الصحافة الفرنسية في إنريكي هدفًا سهلًا لانتقاداتها بسبب أسلوبه الفظ أحيانًا، وإصراره على الصمت حول قراراته التكتيكية، وعدم اكتراثه الواضح بآراء الآخرين، لكن الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي أن عصر مدربي باريس سان جيرمان “المستشارين”، الذين كانوا يتراجعون بخنوع أمام نجوم الفريق، قد ولى إلى غير رجعة، فلا أحد فوق الفريق اليوم، الكل سواسية أمام فلسفة إنريكي الصارمة والقوية، والكل يعلم أن المكان في التشكيلة الأساسية يُكتسب يوميًا على أرض التدريب، لا في مكاتب العلاقات العامة، أو في نجومية ولت.
اليوم التالي
“أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً”.
محمود درويش
كل تلك المميزات، ظهرت جميعها في مباراة ذهاب دوري الأبطال أمام “أستون فيلا”، حيث تحولت مواجهة إلى صراع فلسفي بين مدرستين اسبانيتين متناقضتين، من جهة، وقف لويس إنريكي بفكرته الهجومية الجريئة، محوّلاً تشكيلته المرنة 4-3-3 إلى آلة هجومية متعددة الأوجه، ومن جهة أخرى، تصدى له أوناي إيمري بخطته الدفاعية، حيث بدأ بـ ـ4 -2-3-1 قبل أن يتحول إلى حصن منيع بـ6-3-1 عند فقدان الكرة، ولكن رغم ذلك، سيطر باريس سان جيرمان على المساحات الواسعة ببراعة، مع تحولات سريعة وتمريرات حادة، بينما حاول أستون فيلا الصمود بجدار دفاعي متحرك، لكن كما يتفوق السيف على الدرع في المعارك الطويلة، استطاع الباريسيون اختراق الدفاعات شيئاً فشيئاً، لتنتهي الجولة الأولى بالفوز 3-1.
ولم يكن تشكيل باريس سان جيرمان 4-3-3 مجرد هيكل جامد، بل تميز بسيولة تكتيكية تتكيف مع إيقاع المباراة، قلب هذا النظام النابض كان عثمان ديمبيلي، الذي تحول من جناح تقليدي إلى مهاجم وهمي، ينسل بين الخطوط كشبح يظهر ويختفي، حركاته الذكية خلقت فوضى منظمة في وسط ملعب أستون فيلا، محوّلة الميدان إلى لوحة شطرنج استراتيجية، ففي كل مرة كان يهبط بها ديمبيلي لاستلام الكرة، كان يخلق تفوقاً عددياً (4 ضد 2) ضد ثنائي أستون فيلا (كامارا-تيليمانس)، الذين وجدا نفسيهما في حيرة: متابعة ديمبيلي تعني ترك مساحات كبيرة في الخلف، والبقاء يعطي باريس السيطرة الكاملة.
أضف ذلك أيضًا تحرك رويز نحو العمق، الذي أرغم كامارا على التراجع، وشلت قدرته على الضغط، ثم أيضًا حررت مساحات لفيتينيا ونيفز لقيادة الأوركسترا، ثم حولت وسط الملعب إلى حديقة خاصة بباريس، والنتيجة؟ سيطرة مطلقة تحولت إلى هجمات قاتلة، حيث أصبحت كل تمريرة من خط الوسط أشبه بسهم موجه مباشرة إلى قلب دفاع الخصم، نعم؛ تلك ليست كرة قدم، ، بل هي شطرنج بشري بسرعات عالية، حيث كل حركة تخدم استراتيجية أكبر.

ولفهم الفريق بشكل أكبر، يمكننا النظر إلى الهدف الثالث، حيث كتب ديمبيلي ومينديز السطر الأخير من هذه السيمفونية الباريسية، كانت التمريرات التي سبقت الهدف أشبه بتكثيف لكل ما فعله باريس طوال اللقاء، صبرٌ استراتيجي يتحول إلى ومضة براعة حين يحين الوقت، ذلك التمرير الدقيق من ديمبيلي نحو مينديز لم يكن سوى الفصل الأخير من قصة تكتيكية طويلة، حيث ظل الظهير الأيسر يكرر تلك الانطلاقات طوال المباراة، كسهم يُطلق مراراً حتى يصيب الهدف في النهاية، كان توقيت مينديز مثالياً فعلًا، كأنه يقرأ ذبذبات المدافعين قبل أن يفعلوا ذلك بأنفسهم، انزياحه نحو الداخل، ذلك التمويه البسيط الذي أسقط كونسا وأربك مارتينيز، كان درساً في فن اختراق الدفاعات، والتسديدة بالقدم اليمنى الضعيفة، زادت من جمالية الهدف، وكأنها تذكرة بأن الفن الحقيقي لا يعرف حدوداً تقنية.
شاهد – لوحة فنية رسمها ديزيري دوي في شباك أستون فيلا #دوري_أبطال_أوروبا | #باريس_أستون_فيلا#UCL pic.twitter.com/3aPkL7EFHR— beIN SPORTS (@beINSPORTS) April 9, 2025
ما زاد من جمال الهدف، أن خلفه سبعة وعشرون محاولة، كانت كلها عبارة عن رسائل تكتيكية مرسلة إلى دفاع فيلا، كل هجمة فاشلة كانت بمثابة طوبة تُزال من جدار الصبر الدفاعي، حتى إستراتيجية إجبار فيلا على التمريرات الطويلة، والتي نجح باريس في تعطيل 25% منها، كانت جزءاً من خطة أكبر لاستنزاف الخصم، ما حدث في تلك اللحظة لم يكن مجرد هدف، بل كان برهاناً على فلسفة كروية متكاملة، فلسفة تؤمن بأن الهجمات المتكررة، مثل أمواج البحر على الصخر، ستحدث الشقوق عاجلاً أم آجلاً، وأن التفوق الفني، عندما يقترن بالصبر التكتيكي، سيُثمر في النهاية ولو في الدقائق الأخيرة. الهدف الثالث لم يغير فقط نتيجة مباراة، بل أكد حقيقة أن باريس سان جيرمان تحت قيادة إنريكي أصبح فريقاً يعرف كيف يحول السيطرة إلى انتصارات، وكيف يحول الصبر إلى أهداف حاسمة.
المشاهد التي تلت الهدف كانت تستحق التصوير البطيء، إنريكي يحتضن طاقمه الفني بحماسة، تلك المجموعة التي ساهمت في صياغة كل تفصيلة تكتيكية خنقت الخصوم، مينديز وديمبيلي يتبادلان النظرات قبل الانطلاق للاحتفال، لاعبو الوسط الذين احتضنوا بعضهم عند خط المنتصف، كانوا يعلمون أن هذا الهدف هو تتويج لجهودهم في السيطرة على قلب المعركة طوال اللقاء. تلك المشاهد التي تلت الهدف الأخير كانت تستحق فعلاً التصوير البطيء، إنريكي يحتضن طاقمه الفني بحماسة، كأنه يعانق كل ساعة قضاها في التخطيط والتحليل. مينديز وديمبيلي يتبادلان نظرة فهم صامتة قبل الانطلاق للاحتفال، كشريكين في تنفيذ خطة دُربا عليها حتى أتقناها تمامًا، ثم جادوا بما جادوا به أمام الكاميرات.
الجورجي خفيشا كفاراتسخيليا يبصم على هدف في غاية الروعة للفريق الباريسي#دوري_أبطال_أوروبا | #باريس_أستون_فيلا#UCL pic.twitter.com/1KiJ1OgLB5— beIN SPORTS (@beINSPORTS) April 9, 2025
لاعبو الوسط الذين احتضنوا بعضهم عند خط المنتصف، كانوا يعلمون أن هذا الهدف ليس مجرد رقم في اللوحة، بل هو تتويج لسيطرة تكتيكية دامت 90 دقيقة، هذه اللحظات العاطفية لم تكن لتحدث لولا التحول الجذري في فلسفة النادي، فكما اعترف الخليفي صراحة أن الخطة الخمسية كانت خطأً، ويجب علينا التغيير، أصبحت تلك الأحضان الحارة بين اللاعبين، وتلك النظرات المليئة بالفهم المتبادل، هي نفسها التي تُترجم فلسفة “البناء على مهل”، في الماضي، كانت مثل هذه الأهداف تُعتبر مجرد خطوة نحو تحقيق الهوس الأوروبي، أما اليوم، فأصبحت دليلاً ملموساً على ثقافة جديدة لا تسأل عن “متى” سنفوز، بل “كيف” سنبني فريقاً قادراً على المنافسة عاماً بعد عام.
حتى إنريكي نفسه، وهو يحتضن مساعديه بحماس، كان يعانق أكثر من مجرد لحظة انتصار، كان يعانق رؤية كاملة، فلسفة تؤمن بأن المجد الحقيقي لا يُختزل في لقب وحيد، بل في القدرة على خلق فريق يتعانق أفراده عند خط المنتصف بعد كل هدف، لأنهم يؤمنون بأنهم جزء من شيء أكبر، شيء بدأ بتمريرة حاسمة بين ديمبيلي ومينديز، وامتد ليشمل مستقبلاً كاملاً يُبنى حجرًا بحجر، ورغم الهزيمة في الإياب أمام أستون فيلا، إلا أن تلك النتيجة لن تخبرك القصة كاملة، فتحت أنقاض هذه الخسارة، كان هناك شيء مختلف هذه المرة، لم يكن انهياراً كاملًا كما اعتدنا، بل كان مجرد “هزيمة” عادية، تحمل في طياتها بذور النهضة.
نعم؛ فالفريق الذي اعتاد على الانهيار عند أول عقبة، ظل متماسكاً حتى النهاية، واللاعبون الذين كانوا يوماً جزراً معزولة، باتوا الآن يشكلون قارة واحدة متحدة، صحيح أن الخسارة موجعة على أي حال، ولكن الطريقة التي خسر بها باريس جاءت مختلفة جذرياً عن كل ما سبق، لقد خسر مباراة، لكنه كسب هوية استطاع فعلًا الثبات من خلالها، ثم الصعود معها إلى الدوري نصف النهائي رغم الهزيمة بثلاثية، وسواء كانت أهدافاً أو احتفالات أو نظرات تفاهم بين اللاعبين، تظل تلك الهوية في النهاية هي اللبنات الحقيقية لبناء أسطورة ما، قد لا تكتمل هذا الموسم، لكنها حتماً ستغير من فهمنا للعبة، ومعنى وفلسفة النجاح.