بحر كرة القدم الجديدة

بحر كرة القدم الجديدة

** مشاهدة كرة القدم بعين المشجع قد تختلف عن عين المدرب والناقد والمحلل. فاللعبة دخلت عالما جديدا منذ سنوات لم يكن موجودا فيها كلمات من نوع الضغط العالى وسرعة الاستخلاص، وصناع اللعب بدلا من صانع ألعاب واحد، والظهير الجناح ومتى يكون جناحا. وكنت تسمع سابقا الروح القتالية فى أداء اللاعبين، والآن تسمع شراسة اللاعبين، ونضال اللاعبين.. هكذا باتت كرة القدم بها تفاصيل لا تحصى.

** وعندما قرأت تقريرا عن توماس توخيل عندما حثّ لاعبى إنجلترا على التواصل بشكل أكبر بعد تقييمه لتفاعلاتهم خلال نهائى يورو 2024، كان ذلك أمرا جديدا من مدرب وفى كرة القدم . فما الذى قصده توخيل؟ لقد قام مع فريقه من المحللين بدراسة عدد المرات التى يتبادل فيها اللاعبون الإشارات أو يتحدثون مع بعضهم البعض على أرض الملعب، واكتشف أن نقص هذا الاتصال بين لاعبى منتخب إنجلترا له تأثيراته السلبية ، وهذا فى حد ذاته يكشف جزءًا من صراع جديد داخل ميدان اللعبة، وهو الصراع النفسى.

** إنه عالم جديد فعلا . المحللون يستخدمون الذكاء الاصطناعى لرسم ملامح نفسية للاعبى النخبة؛ إذ يمكن للإحصائيات أن تساعد فى تقييم قدرة اللاعب على التحكم فى مشاعره وقيادتها، مع تسليط الضوء على نقاط الضعف. وهذا جزء من مقال جميل كتبه المحرر جون نصورى فى الجارديان البريطانية. فأنت تسمع من مدرب فى مؤتمره الصحفى جملة «لم يُظهر اللاعبون روحًا قتالية كافية». فهل من الممكن أن يكون الخط الفاصل بين الفوز والهزيمة الروح القتالية؟ وهل من الممكن تحليل الحالة النفسية للاعب بناءً على لغة جسده على أرض الملعب؟

** فى عصر تعتمد فيه كرة القدم على البيانات لإظهار الصفات البدنية، يصعب الحصول على إحصائيات تُقدم مؤشرًا دقيقًا على الصفات النفسية للاعب، مثل التحكم فى مشاعره وقيادته. لكن أندية الدورى الإنجليزى الممتاز، بما فى ذلك برايتون، تستخدم تقنية تهدف إلى المساعدة فى هذا الصدد فى اختيار اللاعبين . ويُعد ياو أمانكواه، المدافع السابق فى الدورى النرويجى والدنماركى، محور الجهود المبذولة لتحسين التقييم النفسى للاعبين. وهو الآن يعمل كناقد رياضى ويقول: «عندما تتابع مباراة وتُحوّل نظرك عن الكرة، تجد كنزًا من المعلومات». «بمجرد أن تتجاهل التكتيكات وتنظر فقط إلى الجانب النفسى من اللعبة واللاعبين من خلال هذه العدسة، سوف ترى ما يستحيل تجاهله وسوف ترى ما إذا كان اللاعبون واثقين أم غير واثقين؟».

** هذا كلام مهم يجب أن يراعيه المحلل والناقد، فتكون عينه أبعد وأوسع من عين الكاميرا التى ترى الكادر فقط، بينما هو مطالب بقراءة ما وراء الكادر. قراءة كل التفاصيل التى فى الملعب . وهنا يضرب أمانكواه مثالا بلاعب يُسدد كرة قوية من مسافة 20 ياردة نحو المدرجات، وبعد 45 ثانية، يتلقى تربيته على ظهره من زميله . إنها لحظة عابرة قد يغفل عنها المشجعون ووسائل الإعلام وحتى المدربون، لكنها، بالنسبة للاعب محترف سابق، تُجسّد حسًا قياديًا هادئًا. يقول أمانكواه: «أعرف الإشارات والسلوكيات البسيطة التى يجب أن تتعلمها لتؤدى عملك بفاعلية فى ملعب كرة القدم».

** على مدار السنوات الست الماضية، عمل أمانكواه مع أستاذ علم النفس جير جورديت، حيث حلل آلاف الساعات من لقطات المباريات من جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك مقاطع فيديو لجميع لاعبى الدورى الإنجليزى الممتاز ودورى السوبر للسيدات. وكانت النتيجة مجموعة بيانات تحتوى على أكثر من 100,000 ملاحظة فريدة، مما مكّن الثنائى – عبر شركتهما «إنسايد آوت أناليتيكس» – من إنشاء تصنيف بديل للاعبين عبر أنواع مختلفة من السلوك.
يمكن لهذه المعلومات أن توضح، على سبيل المثال، ما إذا كان التحكم العاطفى لدى المدافع، مقارنةً بالخصوم والزملاء فى نفس المركز، ضمن أفضل 5% من هؤلاء اللاعبين فى الدورى.

** يُعد بايرن ميونيخ من بين الأندية الرائدة التى جربت هذا التحليل النفسى، خلال فترة تولى جوليان ناجلسمان منصب المدرب . ويقول ماكس بيلكا، عالم النفس السابق فى بايرن ميونيخ، والذى يعمل الآن مع برايتون: بعد كل مباراة، نضع ملاحظات تفصيلية حول وضعية كل لاعب، وحركات رأسه، وإيماءاته مما يعكس الأداء النفسى للفريق، ونقدمها إلى إدارة التدريب. كانت هذه البيانات من بين عدة مجموعات من المعلومات التى كان ناجلسمان ومساعدوه يأخذونها فى الاعتبار قبل اختيار التشكيلة.

** هذا هو بحر كرة القدم الجديدة.. بحر الصناعة.. بحر العلم والعلوم، والبحث والدراسة والتحليل والتفكير.. بحر لا يعرف بحارة يتثاءبون؟

نقلا عن الشروق المصرية