محمد سعد عبد اللطيف: الوحوش التي تمشي في القرية!

 محمد سعد عبد اللطيف: الوحوش التي تمشي في القرية!

 محمد سعد عبد اللطيف
في قريةٍ تلوّنها خيوط الغروب كل مساء، وتغفو على أصوات البوم والكلاب السائبة، اعتاد الناس أن يخبئوا وجوههم خلف طقوس الحياة اليومية: صلاة الفجر، رغيف ساخن من فرن القرية، ونميمة لا تضر ولا تنفع.
هناك، في زقاق ضيّق بين الجامع القديم وشجرة الجميز العجوز، رأيت لأول مرة “الظل” يبتسم في وجه امرأة مسكينة فقدت ابنها في الهجرة غير الشرعية، ثم يمضي ليقايض دموعها برتبة اجتماعية جديدة.
في أماكن كهذه، لا يحتاج الشر إلى عباءة سوداء، بل يكفيه جلباب نظيف، وسبحة تلمع تحت ضوء المصباح. قد يُدعى شيخًا، أو مُعلّمًا، أو ناشطًا… لكنه في الحقيقة مسخ، يتغذى على النقاء، ويعيش بيننا متدثرًا بالحكمة المصطنعة.
في قريةٍ لا تختلف عن سواها، أو في حيٍّ مكتظ بأحاديث الناس وروائح الخبز والصراع على لقمة العيش، قد تصادف أحدهم يبتسم لك كل صباح، يربّت على كتفك، يحدثك عن الأخلاق والوفاء والوطن، وربما يستعير من قصائد الحب ما يخدع به قلبك، بينما في داخله ينهشك كما تفعل الذئاب الجائعة في الظلال.
هؤلاء ليسوا من زمننا، وإن ارتدوا بدلات أنيقة وتحدثوا بلغة الحضارة. إنهم ديناصورات حديثة، مخلوقات تطورت أجهزتها لكن احتفظت بعقلها الزاحف، تعيش بيننا بأقنعة سميكة صنعتها انهيارات القيم وتضخم الذات.
لقد خرجوا من رحم عصرٍ مريب، حيث تسللت الرداءة إلى عصب السلطة، وارتفعت مكانة “السداح مداح” فوق العقلاء، وامتلأت الساحة بقطط سمان لا تشبع، تلوك شعارات العدالة وهي تقضم أرواح الفقراء.
إنه زمن الرأسمالية المتوحشة، حيث تُقايَد الحقيقة بالإعلانات، وتُخنق الفضيلة تحت طاولات المال. زمن صار فيه التلاعب سهلًا، والكذب عملة رائجة، في سوق السوشيال ميديا… حيث الكلمات المزيّفة تلمع أكثر من الحقيقة.
نخطئ حين نحاول فهم كل سلوك بشري بلغة السياسة؛ فليست كل الخيانات نتيجة مؤامرة، ولا كل الوجوه المزيفة جزءًا من جهاز مخابرات. هنالك أمراض نفسية لا تُرى، وانحرافات لا تكشفها المواقف اليومية، بل تنفجر فجأة كقنبلة زُرعت في باطنك وأنت لا تدري.
ما الذي يجعل إنسانًا يطعنك وأنت تسقيه الماء..؟ أو يبتسم لك وهو يجهّز لك مقصلة..؟ إنها ليست فقط مسألة أخلاق أو تربية، بل خلل بنيوي في الوعي والضمير، انعدام داخلي للأنا السليمة، وهاوية مفتوحة تبتلع كل من يقترب منها.
في مجتمعٍ يروّج للمثالية ويقيس الناس بالمظاهر، تُمنح مخلوقات الظلام مفاتيح الوعي العام، وتُصفّق لها الجماهير لأنها تتقن اللعبة: حديث رقيق، صور براقة، و”بوستات” مكتوبة بحرفية شاعر، لكنها في الواقع مسوخ تتغذى على دماء الآخرين، وتتنقل من ضحية لأخرى وكأنها تمر بمحطات شحن.
أما نحن، فما زلنا نعيش في غيبوبة، نحاكم الأحداث بقيم الخير والشر البسيطة، ونسمي الوحش الجميل “إنسانًا مخطئًا” يستحق فرصة، ونقول للضحية: “ربما أنت السبب”. نرثي أنفسنا بالأشعار، نكتب قصائد عن الحب المفقود، ونتجاهل أن الأمر لا علاقة له بالحب، بل بلعبة خبيثة انتهى دورك فيها.
في قريتنا، قد يكون إمام المسجد، أو رئيس الجمعية، أو حتى ذلك المدرّس المتأنق، نسخةً محدثة من القاتل العاطفي، يرتدي ثوب الفضيلة ويمتص روح من يثق به. وحين ينكشف القناع، لا نجد إلا رمادًا، وضحايا يبحثون عن تفسير.
أسوأ ما في هذه المخلوقات أنها لا تعترف، ولا ترى خطأها، بل تلوم الآخرين، وتعيش في عالمها الخاص من التبرير والكذب الممنهج، متخفية بيننا كأنها منّا.
فكيف نواجهها…؟
لا نواجهها بالسذاجة، ولا بالخطب الأخلاقية، بل بالوعي، بالمعرفة، وبإدراك أن الضمير لا يُستعار.
وفي هذا البلد، حيث لا تُكرَّم الأقلام الحرة، وتُقصى العقول من نقابات تُدار بعقليات الستينيات، يصبح المناخ مثاليًا لمخلوقات الظلام كي تصعد، وتستولي على الخطاب العام، وتمنح نفسها جوائز وهمية، وتعيش في عالم من التزييف المُمنهج.
هكذا نعيش، في زمان الأقنعة، داخل مسرحٍ كبير… حيث القاتل يربّت على أكتاف الضحايا، والجمهور يصفّق له لأنه يحسن التمثيل، فيما تسقط الستارة كل ليلة على جثةٍ جديدة لا يراها أحد…!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجيوسياسية

[email protected]