شم النسيم وجدتي

شم النسيم من أهم وأقدم الأعياد المصرية، ترك المصريون على معابدهم، وفي بردياتهم طقوسهم التي لم تتغير حتى الآن، من تقديم الأسماك المملحة، والبصل والخس، وارتباطه بالزهور والخضرة.
يحتفل المصريون بعيد الربيع على مر العصور منذ أكثر من 2700 عام قبل الميلاد، حتى بعد تحول مصر إلى المسيحية، والإسلام، ظل الاحتفال بيوم شم النسيم طقس وطني وليس ديني، يحتفل به المصريون، ويأتي يوم الاثنين بعد عيد القيامة المجيد.
سنعود بالذاكرة إلى الوراء قليلا، منذ أن كنا أطفال في قريتنا الصغيرة، وكان أحد أهم احتفالاتنا يوم شم النسيم، لم تكن لدينا مسؤوليات في ذلك اليوم، ولا ارتباط لنا بأي أعمال في الحقل، يتركنا الأهل كعادتهم يوم المولد والأعياد للهو واللعب والمرح.
كان يومنا يبدأ ليلًا بعد صلاة المغرب، نذهب إلى بيت جدتي لأمي، فاليوم بدونها ليس له طعم ولا معنى، نجتمع جميعا في ساحة البيت، توزع علينا البصلة التي سنضعها تحت رأسنا قبل النوم، في تقليد حاولت أن أستوضحه، فكانت تقول جدتي عندما تنام تتمنى الخير لك ولأهلك، وسوف تتحقق أحلامك، عندما تقذف بها في الترعة.
يصاحب توزيع البصل صخب شديد، كلنا يريد أن تكون بصلته كبيرة، وزاهية، وكاملة، فلو كان بها قطع أو ذبول لن تتحقق أمنياتنا، ونضعها تحت المخدة، ويجن الليل سريعًا، ويعم الظلام أرجاء المكان، حيث لا كهرباء في القرية، ونحن سننام جميعا مع جدتنا، نتزاحم في الغرفة.
وتبدأ جدتي حكايتها الجميلة في بداية الليل، وبعد سماع عدد من الحكايات، تطلب من الجميع أن ينام، لأننا سنستيقظ باكرًا، ونحن نريد أن تستمر في حكاياتها، ثم تغيير دفة الحكايات سريعا، ونحن في غرفة معتمة تماما لا نرى فيها أصابع أيدينا، لتحكي عن أمنا الغولة، والأشباح، لندخل في بعضنا البعض من الخوف، نحاول أن ننام، ونهرب من أيدي هؤلاء العفاريت التي تقترب منا، وتهددنا إن لم تناموا فورًا سأخطفكم إلى خارج المكان، وارفعكم إلى السماء، تقعون على الأرض، لتصبحوا عفاريت.
لكني كنت انتظر أن أرى ذاك العفريت، لا أريد أن يغيب عن عقلي ما سأحلم به، سأتمنى إن أكون وأكون، وأعيش خيالًا وكأنه حقيقة، فيجب أن استيقظ في الفجر، لأذهب إلى الترعة وأقذف ببصلتي ومعها ما تمنيت من أحلام إلى المياه، وأنا غامض عيني كما قالت جدتي، ثم أقذف في المياه بعد قذف بصلتي مباشرة.
قبل شرق الشمس تكون الترعة الكبيرة مليئة بالأطفال، وسطح مياه الترعة يطفوا عليه كثير من البصل، ونقضي الوقت في المرح، وسؤال بعضنا البعض عن الأمنيات التي تطوف مع البصل الكثير على سطح المياه، ويحاول البعض إيجاد بصلته التي صاحبته في ليلته واحتضنت أحلامه، ويبدأ صخب وقسم تلك هي لي لا إنها لي.
ثم نعود إلى البيت، تكون جدتنا أعدت لنا البيض الملون، والإفطار، كلا منا يحصل على بيضة ملونة، ويقوم بتلوين يديه، وكان عادة بنات العائلة ما تبدع في الرسم على البيض بعد أن تصبغ يديها كاملة في اللون القرمزي.
كان لجدتي جارة سيدة كبيرة في مثل سنها، كانت تجهز لنا البيض هي الأخرى، وتبدع في تزينه، وكنا نحافظ عليها ويمنعنا الجوع من أكلها لجمالها، وكانت تصطاد العصافير والحمام بطريقة غريبة في ساحة بيتها الواسع، وكنا نحبها لأنها كانت تعيش وحيدة، وكانت كريمة دائما معنا.
ينتهي صباح شم النسيم وأيادينا ملونة، ومعنا البيض الملون، نذهب إلى بيتنا، حيث كانت أمي تجهز لوجبة الغذاء، وأعدت الخس والبصل، وقامت بإعداد الفسيخ، والرنجة، وقامت فجرًا لإعداد الخبيز، والعيش القمح الطري الجميل.
بعد الغذاء كنا نذهب إلى الحقول الخضراء الرائعة بجمالها، وكأننا نراها لأول مرة، مع أننا نعيش فيها كل يوم، ونقوم باصطياد السمك.
كان من عادتي الشخصية مع صديق لي أن نذهب إلى المدرسة، فكانت مدرستنا كبيرة، بها أحواض كثيرة من الزهور والورد، ما زلت شاخصة أمام عيني حتى الآن بجمالها وتنسيقها الرائع، اليوم تم هدم المدرسة وبناء مجمع من المدارس وتحولت الأحواض الزاهية إلى كتل من الخرسانة والجمود.
قبلها كانت تذهب الفتيات وسيدات البيت من العمات والخالات إلى جدتي، في سبت النور لتضع الكحل في أعينهم، ويبدين كملكات فرعونية، بثيابهم الجديدة، كنت أظن أنهم سيذهبون بهم إلى البحر الكبير – ترعة كبيرة – ليقذفوا بهم كبنات النيل من جمالهم وحسنهم، وهم يدعون أن تحفظهم ستنا مريم أم النور.
تغنى المطربون بالربيع، وكتب الشعراء أروع القصائد في التغني بجماله، ورسمت الطبيعة في الربيع أجمل صورها، وما زلنا نحافظ على هويتنا وتقاليدنا القديمة في احتفالاتنا بعيد الربيع، أو شم النسيم كمناسبة وطنية راسخة لدى المصريين منذ أجدادنا القدماء، وسيستمر رمز للمحبة والنماء والحصاد والخير.
وكل عام ومصر بخير دائما وسلام ومحبة.