دكتور طارق ليساوي: الظاهرة الداوودية في مواجهة الظاهرة الجالوتية..

دكتور طارق ليساوي
حاولت من خلال مقال “من سقوط غرناطة إلى طوفان الأقصى …” التركيز على لحظة سقوط غرناطة سنة 1492 ميلادية و ما أعقبها من أحداث و تطورات كبرى، و أهمها اكتشاف ما سمي بالعالم الجديد ، و أوضحنا أن الغاية و الدوافع التي تحكمت في سيكولوجية الأنظمة الأوروبية ، وتحديدا اسبانيا والبرتغال لم تكن دوافع اقتصادية و تجارية فحسب، ولكنها كانت تحمل بذور دينيه وعرقية وعنصرية، متعصبة للمسيحية، و للعرق الأبيض، و مسكونه بهواجس “علمية” ملغومة صارت تهدد اليوم الجنس البشري، تحت مسميات الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية والوراثية، على نقيض الحضارة الإسلامية التي أسست وقعدت وطورت علوما تضع في صلب اهتمامها تكريم الانسان، وحفظ الطبيعة واشاعة قيم التعاون والتعايش والكرامة الإنسانية، التي سماها عالمنا الجليل المهدي المنجرة رحمه الله ب”قيمة القيم” مصداقا لقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾( الإسراء-70)..
جرائم ممتدة
و نحن نكتب هذه السطور فجر يوم الأحد 20-04-2025، ارتفع عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا جراء استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 29 شخصا، في ظل تصعيد الجيش لجرائم الإبادة الجماعية التي تستهدف في معظمهما الأطفال والنساء..
هذه الجرائم الممتدة ضد الشعب الفلسطيني و غيرها من الشعوب العربية و الإسلامية، تؤكد على حقيقة لا يطالها الشك، أن كراهية الإسلام القاسم المشترك بين الكيان الصهيوني و صناعه ، فأمريكا صاحبة المشروع العالمي تريد أن تكون كل الشعوب تحت سقف عقيدة واحدة هي:” المسيهودية”..
فأمريكا ترى أن الإسلام الذي أسس دولة هي دولة محمد النبي، أصبح ينافس الكنيسة التي أسست دولة هي الأخرى، و لأن الكنيسة لم تفلح في أن تجعل من دولتها دولة عالمية ، و فشلت محاولتها في السيطرة و الهيمنة، و التخلص من الأديان كالإسلام، اندفعت لتغيير أنماط حياة الناس و ذهنياتهم، و تكسير بنياتهم الاجتماعية و الاقتصادية..و لذلك، هي تعتبر الإسلام دين يهدد مصيرها و مستقبلها، و بدأت تنشر بذور العدائية بين الشعوب و تحذرهم من مخاطر الإسلام و تروج أنه انتشر بالسلاح و العنف، و تصف المسلمين بالإرهابيين..
مواجهة أسطورية
و بعد أن خضعت أمم العالم لهذا التحالف الصهيو-صليبي و “المسيهودي” برزت غزه كقلعة صامدة تأبى السقوط ورفع الراية البيضاء، وأعطت للعالمين دروسا في إمكانية الصمود والمواجهة، والتغلب على القوة الغاشمة ومفاوضتها ندا للند، و أعطت نموذجا معاصرا للمواجهة الأسطورية بين داوود وجالوت، و التي أوردها القران الكريم ، قال الله تعالى: ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة البقرة-249). هذه الآية تجسد واحدة من أروع القصص التاريخية التي خلّدت انتصار الضعيف بإيمانه وحكمته على الطغيان الجائر..
داوود و جالوت
في زمن بعيد، كان بنو إسرائيل يواجهون جيشًا ضخمًا بقيادة المحارب الشرس جالوت، ورغم قوة هذا الجيش وجبروته، إلا أن النصر لم يكن حليف القوة العسكرية، بل كان حليف الإيمان والشجاعة، تقدم داود عليه السلام ، الفتى الصغير ذو البنية الضعيفة، لمواجهة جالوت العملاق المدجج بالسلاح، لم يملك داوود عليه السلام سوى حجر ومقلاع، ولكنه امتلك أعظم سلاح: “اليقين بالله” ، حين واجه داود عليه السلام جالوت، رمى بحجر صغير أصاب جبهة الطاغية وأسقطه أرضًا، لينتصر الفتى الضعيف على العدو القوي، لم يقل داود أن موازين القوة المادية غير متكافئة وليست في صالحه، بل أخذ بالأسباب التي بيده و توكل على الله، فكان هذا الانتصار درسًا خالدًا في أن الإيمان والاعتماد على الله يتفوقان على أي قوة ظاهرة مهما بلغت عظمتها…
الظاهرة الجالوتية
قصة داود و جالوت تتكرر اليوم على أرض غزة، معركة الحق و الباطل ، معركة بين خصمين على طرفي نقيض: خصم أول ، تنطبق عليه كل شروط و ضوابط و مواصفات “الظاهرة الجالوتية” إسرائيل جوهرة الأرض عملاق في التقدم العسكري والتقني و المادي، وأكثر الدول نصيبا من الدعم العالمي والحصانة من أي عقوبة، وأفضلها حظًا في تسخير الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية لحمايتها، ولم تترك فرصة في التفوق السياسي والعسكري والمالي والإعلامي والاستخباراتي والسيطرة على الأرض والجو والبحر.. إلا تمكّنت منها.
الظاهرة الداوودية
خصم ثاني و يمثل المقاومة في غزة و تنطبق عليه أغلب شروط و مواصفات “الظاهرة الداوودية”، شريط ضيق من الأرض، تُحاصره إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية والحكومات العربية و الغربية منذ 2006 ، شعب محروم من كل مقوّمات الحياة الطبيعية، وكلامهم وتحركُهم مرصود بأحدث وسائل التجسس..
و مع ذلك تمكن هذا الطرف المُحاصر و المُجوع و المُفقر، أن يحدث يزلزل عرش الكيان و يغير كل التوازنات الإقليمية و الدولية و يسقط كثيرا من المسلمات والأقنعة، و من ضمن المسلمات التي تم إسقاطها إل تم إسقاطها إلى الأبد ، أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأكذوبة إسرائيل واحة الديموقراطية في المنطقة ، و القلعة الحصينة التي لا يمكن هزيمتها ، هذا الكيان المصطنع الذي إختزل خرافة العبقرية اليهودية و التفوق العسكري و التكنولوجي للعقل الصهيوني المتفوق، كما تم تدمير جدارها الذكي الذي يسمع “دبيب النملة”، وبرامجها التجسسية التي إشتهرت في عالمنا العربي وأصبحت نظم الاستبداد تشتريها للتجسس على شعوبها و معارضيها ..
يوم من أيام الله
لذلك، فإن يوم 7 أكتوبر 2023 يوم من أيام الله التي ينبغي ان ندرسها لأبنائنا ونحفظ ذكراها و نخلدها ..ففي هذا اليوم تغير كل شيء في هذا العالم، فالعالم قبل هذا التاريخ ليس هو العالم بعده، فهذا الحدث العظيم لم يستهدف دولة الاحتلال و يكسر جبروتها و إنما امتد لباقي أرجاء العالم، فسقطت أقنعة الغرب الراعي لحقوق الانسان و للقيم الإنسانية الكونية، فتبين أن كل ذلك مجرد شعارات و بروباغندا صفراء، رأينا كيف دعمت حكومات منتخبة ديموقراطيا حرب الإبادة الجذرية رغم معارضة شعوبها
رأينا كيف نجحت غزة المحاصرة و المستضعفة في مواجهة و تحدي آلة حرب ضخمة وعدوًا يملك كل أدوات القوة المادية. ومع ذلك، فإن أهل غزة، كداود، يعتمدون على إيمانهم وصمودهم. رغم الحصار والقصف، ورغم قلة الإمكانيات، يقفون ثابتين في وجه العدو، مؤمنين بأن الله ناصرهم لا محالة..
فالمعركة اليوم يقودها شياطين الجن والإنس في مواجهه أولياء الله وحزبه من الإنس و الجن ، هذه هي الحقيقة القرآنية التي تخص الثقلين معا وإن ابطال سحر الكيان الصهيوني الصليبي لا يمكن مواجهته فقط بموازين القوه المادية بل لابد من الاستعانة بالطاقة الإيمانية… فقصة داود وجالوت ليست مجرد حكاية تاريخية، بل هي نموذج حي يتكرر في كل زمان ومكان. إنها تذكرنا بأن النصر لا يُقاس بحجم القوة المادية، بل بإرادة الحق وإيمان الضعفاء بعدالة قضيتهم، قال الله تعالى: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (سورة محمد: 7). فأهل غزة اليوم يعيشون هذا الإيمان عمليًا، يواجهون بأسلحة بسيطة وأرواح مليئة بالعزيمة، ليؤكدوا للعالم أن الظلم مهما طال، لا بد أن ينهزم أمام صمود أهل الحق.
إحياء ذاكرة الشعوب
و ربطا بما سبق، فالجرائم التي يرتكبها الحلف الصهيو-صليبي في غزة ، إمتد صداها إلى الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية،و أعادت إحياء و إنعاش ذاكرة المستضعفين و المنهوبة حقوقهم و المسفوكة دمائهم و المحتلة أوطانهم، و لسان حالهم لا تضعفوا كما ضعفنا ، و لا تستسلموا للرجل الأبيض و حضاراته المدمرة ..إن غزة و تضحياتها الجسيمة و بطولات نساءها و رجالها فتحت أعين العالم والشعوب المستضعفة إلى حقيقة النظام الدولي المنبثق عن الحربين العالميتين، وبالأخص النموذج الاقتصادي و الاجتماعي و الأخلاقي المتبع ، و جهود تنميط وتدجين البشر ، فقبل انفجار أزمة غزة ، العالم شهد و يشهد و سيشهد في مراحله و عقوده انتفاضات و ثورات ، أخرها و أكثرها شهرة في عصرنا هذا ثورات الربيع العربي التي تحولت- بفعل فاعل و بجهل متصدريها و قاعدتها الشعبية- لخريف جاف و قاحل ..إن الهدف الأساسي و المنشود هو النموذج الحضاري الذي يعيد الإعتبار للإنسان جسدا و روحا، كما يعيد الاعتبار لمحيطه و مستقره أي الأرض بكل عناصرها ..
هذا الهدف النبيل و الشاق ، هو المحور الأساسي الذي عملنا و نعمل على صياغته من خلال كتبنا “النموذج التنموي المنشود” بأجزائه الثلاثة و التي لا زالت في ثلاجة مصلحة الإيداع القانوني بالمكتبة الوطنية لنحو سنة و نيف، و كتب ” المدرسة النبوية اليوسفية ” بأجزائه الأربعة و التي توفقنا في إيجاد السبيل لإخراجها للقارئ و متاحة ورقيا و إلكترونيا ، و كتب طوفان الأقصى و أخص بالذكر كتاب ” طوفان الأقصى من طنجة إلى جاكارتا” و كتاب ” طوفان الأقصى من القدس إلى الأندلس” ، هذا فضلا عن برنامجكم “إقتصاد × سياسة” الذي يحاول شرح هذا المشروع الفكري و تقريبه للقارئ و المشاهد العربي في مشارق الأرض و مغاربها… هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب.