سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا

في المشهد الشعري العربي الحديث، تقف رنا التونسي ككائنٍ لغوي هشّ، يمشي فوق شفا الهاوية، حاملةً في يدٍ زهرةً للغفران، وفي الأخرى رمادًا لما لم يعد ممكنًا إصلاحه. شاعرة خرجت من قلب القاهرة لا بوصفها مدينة، بل ككائن خرافي متعدد الوجوه: أنثى مرّت من الأزقّة الضيقة، من الحروب الصغيرة داخل النفس، ومن محطات الانتظار التي لا تصل فيها القطارات.
إنّ رنا التونسي ليست مجرّد شاعرة تكتب، بل امرأة تؤسس لكتابة مغايرة، كتابة تحفر عميقًا في أرض الطفولة، في علاقة الأم بابنها، في الذكريات التي لم تكتمل، في الحب بوصفه نوعًا من الهروب، وفي الهروب بوصفه نوعًا من الحب.
في دواوينها الأولى مثل “وردة للأيام الأخيرة” و”وطن اسمه الرغبة”، بدت رنا وكأنها تنقّب عن شظايا ذاتها في أنقاض عالم لا يعترف بالهشاشة. كانت القصائد هناك أقرب إلى صرخات فتاة فقدت خريطة البيت، لكنها لا تزال تحمل مفاتيحه في جيب معطف ممزق. يتكرر حضور الفقد، الغياب، الوحدة، والعشق غير المتحقق. لكن هذه الموضوعات لا تأتي ككليشيهات، بل كل مرة بلغة مفاجئة، صورة تجرح، استعارة تهمس أكثر مما تصرخ.
في هذه المرحلة، يمكن ملاحظة تشكل ما يمكن تسميته بـ”لغة رنا التونسي”: لغة تتعمد الكسر، تحب القفز من سطرٍ إلى آخر، لا تستكين لإيقاع تقليدي، ولا تخشى من الانكسار الداخلي للبيت الشعري. إنها تكتب كما تحلم، كما تنزف، وكما تتنفس.
يأتي ديوان “كتاب الألعاب” كعتبة جديدة في تجربتها، حيث تتقاطع اللغة مع الأمومة، لا بوصفها وظيفة بيولوجية، بل كنوع من التورط العاطفي. رنا لا تكتب عن الطفل فقط، بل تكتب عبر الطفل، ومن خلاله. يتحول الحلم، الخوف، الحكاية، واللعبة إلى مفردات شعرية. كل شيء هنا يبدو هشًا، لكنه مشبع بالحب الذي لا يحتاج إلى إثبات.
في هذا الديوان تحديدًا، تبلغ تجربتها درجة من النضج تؤهلها لتأسيس ما يشبه “أدب الأمومة” العربي، وهو أدب نادر في الشعر العربي الحديث، تفتحه رنا بصوت لا يشبه أحدًا سواها. من خلال هذا الصوت، تكتب الأم التي تخاف من كل شيء، من النوم، من الموت، من أن يسألها طفلها لماذا العالم قاسٍ. لا تجيب، لكنها تكتب.
في شعر رنا التونسي، لا وجود للجمال المتكامل. الجمال يأتي دائمًا مشوهًا، ناقصًا، أشبه بجناح طائر لا يستطيع الطيران به. إنها تؤمن بأنّ العالم لا يُحتمل إلا حين يُكسر قليلًا، حين نرى في الشقوق ما يشبه وجوهنا. وفي هذا السياق، تصبح الكتابة عندها فعل نجاة، لا رفاهية.
لذلك نجد في دواوين مثل “فهرس الخوف” و”عندما لا أكون في الهواء” نبرة أقرب إلى السرد الحميم، إلى اليوميات، إلى التدوين الشخصي الذي يتجاوز الشعر ليؤسس حميمية لا تُقاوم.
رنا التونسي ليست فقط شاعرة، بل قارئة نهمة، ومحرّرة أدبية. في تحريرها لكتاب “ديوان الأمومة”، لم تكن تنسّق نصوصًا لشاعرات عربيات فحسب، بل كانت تؤسس لمشهد، لمجال، لصوتٍ جديد يصرخ من منطقة نادرًا ما يُصغى إليها: الجسد الأنثوي حين يتقاطع مع الجسد الأمومي، لا بوصفه بيولوجيا، بل كجغرافيا وجود.
في زمنٍ باتت فيه كثير من القصائد تُكتب بطمأنينة كاذبة، تخرج رنا التونسي من صمتها لا لتقول “أنا هنا”، بل لتهمس: “أنا هناك… حيث لا أحد يجرؤ على البقاء.” إنها شاعرة لا تعيش في المركز، بل تقيم في الأطراف، في الظلال، في الأماكن التي يخاف منها الشعراء لأنها “لا تصلح للنشر”.
ولعلّ هذا بالضبط ما يجعل شعرها جديرًا بالقراءة: أنه لا يسعى لإرضاء أحد، لا يعرض نفسه على مقاييس الجمال الجاهزة، بل يخلق مقاييسه بنفسه، كما لو أنّ القصيدة هي جرحٌ يكتب نفسه كل مرة بطريقة جديدة.
ربما يمكن القول إنّ رنا التونسي تكتب كما لو أنها تكتب في مرآة، لا لترى نفسها، بل لتكسر انعكاسها. شاعرة لا تخاف من القبح، من الخوف، من الوحدة، بل تحوّلها إلى زهورٍ سوداء تصلح لتزيين قصائدها. وإذا كان الشعر محاولة لترميم الكائن، فإن رنا التونسي تفعل ذلك، لكنها لا تستخدم الإسمنت، بل القصائد.
وفي زمنٍ يهرب فيه الشعراء من الحافة، تقف هي على شفيرها، مبتسمة، كأنها تقول لنا:
الشعر هو أن تبقى واقفًا هناك، حيث الجميع يسقط..