د. أيمن زهري: الشتاء الديموغرافي: أزمة التحول السكاني في أوروبا وأسئلة المستقبل

د. أيمن زهري: الشتاء الديموغرافي: أزمة التحول السكاني في أوروبا وأسئلة المستقبل

 

 

د. أيمن زهري

يشهد العالم المتقدم تحوّلًا ديموغرافيًا عميقًا يتجلى في تراجع معدلات الخصوبة وتزايد أعداد كبار السن وتناقص الولادات إلى مستويات غير مسبوقة. هذا الاتجاه السكاني المتباطئ أصبح يُعرف في الأدبيات الحديثة بمصطلح “الشتاء الديموغرافي”، الذي يحيل إلى مرحلة ركود وتراجع في النمو السكاني، بما يشبه ركود الطبيعة في الشتاء. وإذا كانت قضايا الانفجار السكاني تشغل تفكير الدول النامية، فإن معضلة “الاختفاء السكاني الصامت” باتت تؤرق المجتمعات الصناعية الكبرى، وعلى رأسها أوروبا.
مفهوم الشتاء الديموغرافي
“الشتاء الديموغرافي” هو وصف مجازي لحالة الانكماش السكاني التي تحدث عندما تنخفض معدلات الخصوبة دون مستوى الإحلال  (2.1 مولود حي لكل امرأة في سن الحمل 15–49 عاماً) ، مع استمرار هذا الانخفاض على مدى زمني طويل، دون أن تُقابلها موجات هجرة أو سياسات فعالة تشجّع على الإنجاب. في هذه المرحلة، تبدأ المجتمعات في الشيخوخة والانكماش نظراً لارتفاع معدلات الوفاة عن معدلات المواليد (كما هو الحال في العديد من بلدان أوروبا حالياً)، ما يؤدي إلى تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية معقّدة. يُعد هذا المفهوم تطورًا متأخرًا ضمن نظرية التحول الديموغرافي، حيث تتحول المجتمعات تدريجيًا من النمو السكاني الإيجابي إلى التراجع الصامت، في ظل تفضيل الأفراد لنمط حياة يتسم بالنزعة الفردانية، وتأخير الزواج، والعزوف عن الإنجاب لأسباب اقتصادية وثقافية.
أوروبا: مشهد الشتاء الديموغرافي الأكثر اكتمالًا
تُعد أوروبا اليوم النموذج الأوضح لملامح الشتاء الديموغرافي، فقد بلغ معدل الخصوبة في دول الاتحاد الأوروبي في عام 2023 نحو 1.38 مولود لكل أنثى في سن الحمل، مسجّلًا بذلك أدنى مستوى له منذ عقود،إذ انخفض عدد المواليد في عموم الاتحاد الأوروبي إلى  3.67 مليون مولود فقط في عام 2023، مقاناً بـ 3.88 مليون مولود حي في العام السابق، بحسب بيانات “يوروستات” الرسمية¹. في مقدمة الدول منخفضة الخصوبة تأتي مالطا  (1.06 مولود حي لكل امرأة في سن الحمل) ، تليها إسبانيا  (1.12) وليتوانيا (1.18). في المقابل، حافظت بلغاريا على المعدل الأعلى بين دول الاتحاد (1.81)، بينما حللت فرنسا  (1.66) والمجر (1.55) في مراتب متقدمة نسبيًا، رغم أن جميع هذه القيم تظل تحت مستوى الإحلال السكاني. هذا الانخفاض المتواصل يحدث في سياق ارتفاع مستمر في متوسط العمر المتوقع (توقع العمر عند الميلاد)، ما يزيد من نسبة كبار السن، ويضع ضغوطًا إضافية على نظم التقاعد والرعاية الصحية والبنية الاقتصادية بأكملها.
الهجرة: حل مؤقت أم استراتيجية ديموغرافية؟
تُطرح الهجرة باعتبارها خيارًا استراتيجيًا أمام الدول الأوروبية لتدارك آثار الانكماش السكاني. فالمهاجرون عادة ما يكونون من الفئات الشابة، ويساهمون في تعزيز سوق العمل، وتمويل أنظمة التقاعد، ورفع معدلات الإنجاب ولو جزئيًا على المدى القصير. إلا أن الأبحاث تُظهر أن معدلات الخصوبة بين المهاجرين تنخفض تدريجيًا بعد الاستقرار في بلدان المهجر، خاصةً لدى الأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين، ما يعني أن الأثر الديموغرافي للهجرة ليس مستدامًا بذاته². كما أن استخدام الهجرة كأداة ديموغرافية يصطدم بتحديات سياسية وثقافية متزايدة، خاصة مع صعود اليمين المتطرف في العديد من البلدان، والمخاوف من “الاستبدال السكاني” وما تثيره من توترات ترتبط بالهوية. إضافة إلى ذلك، فإن التفاوت الكبير في مهارات المهاجرين يجعل مساهمتهم الاقتصادية متفاوتة، ويضع تحديًا أمام سياسات الاندماج والتدريب والتوظيف. رغم هذه القيود، تُجمع المؤسسات الأممية، كالأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، على أن الهجرة تبقى أحد الأدوات الضرورية لتأخير مظاهر الشتاء الديموغرافي، وليس بالضرورة لمنعه بالكلّية³.
الوضع في مصر: شتاء بعيد أم أزمة من نوع مختلف؟
في الطرف الجنوبي من المتوسط، لا تزال مصر بعيدة عن الشتاء الديموغرافي. إذ تشير آخر التقديرات السكانية إلى أن معدل الخصوبة في البلاد لا يزال عند مستوى مرتفع نسبيًا، يبلغ نحو 2.85 مولود حي لكل امرأة في سن الحمل⁴، وهو أعلى من معدل الخصوبة الإحلالي، إلا أن التركيبة السكانية في مصر تُظهر بوضوح تركيبة سكانية فتيّة، حيث يشكّل السكان دون سن 15 عامًا أكثر من ثلث السكان، وهي نسبة تضع ضغوطًا كبيرة على قطاعات التعليم، والصحة، والإسكان، وسوق العمل. هذه المعطيات، تجعل مصر بعيدة كل البعد عن الشتاء السكاني، بل لا أبالغ إذا قلت أن مصر مازالت في مرحلة الصيف السكاني.
خاتمة
يُعد الشتاء الديموغرافي من أكثر التحديات الوجودية التي تواجه المجتمعات المعاصرة، خاصة في أوروبا، حيث يؤدي انخفاض معدلات الخصوبة وتقدم السن إلى خلل بنيوي في القوي العاملة، ونظم الرعاية الاجتماعية، واستدامة النمو الاقتصادي. في حين تُطرح الهجرة كأداة لمعالجة هذا التراجع، فإنها لا تُشكل حلاً سحريًا، بل تحتاج إلى إدارة استراتيجية وقبولاً مجتمعياً لا يمكن التعويل عليه في ظل ارتفاع أسهم اليمين المتطرف. أما في دول الجنوب، مثل مصر، فإن التحدي لا يتمثل في الانكماش، بل في ضبط الزيادة السكانية والاستفادة من التركيبة العمرية الشابة، ضمن أفق تنموي بعيد المدى. إن فهم الديناميكيات الديموغرافية ليس ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة قصوى لصياغة سياسات عادلة ومستقبلية، تحمي توازن المجتمعات، وتحفظ لها ديمومتها.
الهوامش والمراجع

Eurostat (2024). Live births in the EU at lowest level since 1961. Retrieved from: https://ec.europa.eu/eurostat

OECD (2020). International Migration Outlook. Paris.

United Nations Population Division (2001). Replacement Migration: Is It a Solution to Declining and Ageing Populations?

الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2023). مؤشرات سكانية. القاهرة.

الكاتب
الدكتور أيمن زُهْرى باحث وخبير متخصص في السكان ودراسات الهجرة، حاصل على درجة الدكتوراة في دراسات الهجرة من جامعة ساسيكس بالمملكة المتحدة 2002. الدكتور زهري هو الرئيس المؤسس للجمعية المصرية لدراسات الهجرة (EGYMIG). عمل الدكتور أيمن زهري لأكثر من 35 في مجالات تخصصه بما في ذلك العمل في المركز الديموغرافي بالقاهرة، والجامعة الأمريكية في بيروت، والمعهد الدنماركي للدراسات الدولية، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة القاهرة. ترأس الدكتور زهري أول لجنة علمية حول الهجرة الدولية بالاتحاد الدولي للدراسة العلمية للسكان (IUSSP)، بين عامي 2011 و2014. تشمل اهتماماته البحثية الحالية ديموغرافية الهجرة، وإحصاءات الهجرة، والهجرة المناخية، وحقوق المهاجرين. الدكتور زهري عضو في هيئة تحرير دورية International Migration Review (IMR). في ديسمبر 2021، تم تعيين الدكتور زهري عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان (مصر).

 خبير السكان ودراسات الهجرة/مصر
[email protected]