اغتيال العلماء: الأسلوب السري لمواجهة الطموحات النووية

تتكرر بين الحين والآخر أخبار اغتيال علماء متخصصين في برامج نووية، في سياق محاولات دولية – بعضها معلن والآخر سري – لمنع خصومها من تحقيق اختراقات في مجال تطوير الأسلحة النووية.
وتُظهر هذه الاغتيالات، التي غالبًا ما تُنسب إلى عمليات استخباراتية دقيقة، كيف أن بعض الدول لا تتردد في استخدام وسائل تتجاوز الطرق الدبلوماسية أو الاقتصادية في سعيها لوقف الطموحات النووية لخصومها.
وفي هذا السياق، تُعتبر إسرائيل من أبرز الأمثلة، إذ تباهت مرارًا بقدرتها على تنفيذ عمليات داخل العمق الإيراني، بما في ذلك تصفية علماء يعتبرون من الركائز الأساسية في البرنامج النووي الإيراني. وتأتي هذه الأنشطة ضمن سلسلة من التحركات التي تلجأ إليها دول مختلفة لعرقلة أو إبطاء المساعي النووية للدول المنافسة، وخاصة في المناطق المضطربة سياسيًا وأمنيًا.
صراعات استخباراتية ممتدة
في عام 2018، وخلال أحد خطاباته، ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اسم العالم الإيراني محسن فخري زاده، الذي كان يعد من أبرز العقول في البرنامج النووي الإيراني. وبعد عامين، وتحديدًا في نوفمبر 2020، تم اغتيال فخري زاده قرب العاصمة طهران، في عملية وُصفت بأنها دقيقة ومعقدة. وأفادت تقارير إعلامية بأن زاده كان يمتلك معرفة متعمقة لا يمكن تعويضها فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، وأنه كان عنصرًا محوريًا في قيادته وتطويره.
وفي خطوة إعلامية تعبّر عن الفخر بهذه الاختراقات، أنتج التلفزيون الإسرائيلي مسلسلًا دراميًا بعنوان “طهران” في 2020، يُظهر تفاصيل عمليات تجسس واختراق للمفاعلات النووية الإيرانية، وهو ما يعكس حجم التوتر الدائم بين تل أبيب وطهران حول الملف النووي.
ولم تقتصر هذه الظاهرة على الساحة الإيرانية فقط، بل امتدت لتشمل العراق أيضًا، خاصة خلال وبعد فترة حكم الرئيس الراحل صدام حسين. ففي ظل الصراع الإيراني-العراقي، اتهم مسئولون عراقيون طهران بالضلوع في اغتيال عدد من العلماء العراقيين بهدف إضعاف أي طموح نووي عراقي.
وفي لقاء تلفزيوني ضمن برنامج “الذاكرة السياسية”، قال الدكتور فاضل الجنابي، آخر رئيس لمنظمة الطاقة الذرية العراقية، إن كلًا من إيران وإسرائيل تورطتا في تصفية ما يصل إلى 1500 عالم عراقي بعد سقوط نظام صدام في 2003، بينهم 75 من العاملين في المجال النووي. وتكشف هذه التصريحات عن حجم الصراع الخفي الذي كانت تعيشه المنطقة بشأن التوازن النووي والردع.
روسيا أيضًا في دائرة التصفيات
لم تقتصر الاغتيالات على الشرق الأوسط فقط، بل طالت روسيا كذلك، خاصة في ظل التوترات المتصاعدة بين موسكو والغرب بعد اندلاع الحرب الأوكرانية. ففي ديسمبر الماضي، عُثر على جثمان ميخائيل شاتسكي، أحد أبرز مصممي أنظمة الصواريخ الروسية، مقتولًا في موسكو إثر تعرضه لإطلاق نار في حادث مدبّر.
وأفادت تقارير بأن شاتسكي كان يشغل منصبًا مرموقًا في أحد مكاتب تصميم أنظمة التوجيه والصواريخ، وأن القاتل لاذ بالفرار من مكان الحادث دون أن يتم القبض عليه. واعتُبر هذا الحادث من بين محاولات غامضة، يُحتمل أنها تهدف إلى إضعاف الكفاءة التقنية الروسية في مجال التسليح الاستراتيجي.
ومن المرجح أن يُفهم هذا الاغتيال في سياق محاولات غربية للحد من قدرات موسكو التكنولوجية والعسكرية، كجزء من الصراع المفتوح معها منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وخاصة أن شاتسكي كان يُعد من العقول الداعمة لتطوير الترسانة الروسية الحديثة.
أسلحة نووية
إحباط الخصوم من تطوير أسلحة نووية يُعتبر من أكثر الملفات تعقيدًا في العلاقات الدولية. فهو لا يتعلق فقط بالحفاظ على التفوق العسكري، بل يتعدى ذلك ليصل إلى حماية النظام الدولي من الانهيار أو الدخول في سباق تسلح غير محسوب.
وترى الدول الكبرى أن منع انتشار الأسلحة النووية ضرورة استراتيجية لحماية أمنها القومي، وردع خصومها، والحفاظ على توازن القوى العالمي. ويكمن التهديد في أن أي دولة تنجح في امتلاك هذا النوع من السلاح، فإنها تصبح طرفًا يصعب ردعه بسهولة، ما يُغيّر موازين القوى بشكل جذري.
الدوافع التي تدفع الدول إلى منع خصومها من التقدم في المجال النووي تشمل: الحفاظ على الأمن القومي: حيث تعتبر امتلاك العدو لسلاح نووي تهديدًا وجوديًا، منع الانتشار النووي: لضمان استقرار العلاقات الدولية.
الحفاظ على التفوق العسكري والاستراتيجي، ردع الخصوم المحتملين من خلال توجيه رسائل تحذيرية، منع سباقات التسلح الإقليمية التي تخلّف آثارًا كارثية على الأمن الجماعي، أدوات تعطيل النشاط النووي: من الدبلوماسية إلى العمليات القتالية
تعتمد الدول على مجموعة من الوسائل لعرقلة النشاط النووي، تتراوح بين السلمية والعنيفة، ومن أبرزها:
الدبلوماسية والضغط السياسي، المفاوضات: مثل الاتفاق النووي مع إيران، الضغط الدولي: عبر قرارات وإدانات في المنظمات الدولية، طرح مبادرات لنزع السلاح النووي أو إنشاء مناطق خالية منه.العقوبات الاقتصادية، مثل حظر التجارة وتجميد الأصول، والتي تطال أفرادًا أو شركات مرتبطة مباشرة بالبرنامج النووي، تقييد المعاملات المالية ومنع الاستثمارات الأجنبية.العمليات الاستخباراتية والسرية، التجسس: للحصول على معلومات دقيقة حول البرنامج النووي.، بجانب الهجمات السيبرانية، مثل فيروس “ستوكسنت” الذي عطل أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، الاغتيالات كوسيلة لإرباك وتفكيك شبكات التطوير النووي، العمليات النفسية بهدف تقويض الثقة في قدرات البرنامج النووي داخليًا.الخيارات العسكرية: الضربات الاستباقية، كما فعلت إسرائيل في العراق عام 1981 وسوريا عام 2007، بجانب التهديد باستخدام القوة كوسيلة للردع دون تنفيذ فعلي، لكن هذه الخيارات محفوفة بالمخاطر، وقد تؤدي إلى تصعيد إقليمي أو دولي غير محسوب.
عقبات
التحديات التي تواجه عمليات الإحباط، رغم تعدد الوسائل، فإن إحباط النشاط النووي لخصم ما يواجه عقبات كبيرة، مثل احترام السيادة إذ تعتبر الدول تطوير برنامج نووي جزءًا من حقوقها السيادية، وتعقيدات التنسيق الدولي نتيجة اختلاف المصالح والرؤى بين القوى الكبرى، والمرونة والصمود التي قد تظهرها الدول المستهدفة في مواجهة العقوبات أو الضغوط، المخاطر الأمنية التي قد تؤدي إلى تصعيد شامل أو اندلاع حرب، الغموض النووي إذ تلجأ بعض الدول إلى عدم التصريح بمدى تقدمها، ما يصعّب تقييم الموقف.
ويبقى امتلاك السلاح النووي نقطة اشتعال دائمة في السياسة العالمية، تقابلها جهود محمومة من الخصوم لإحباطها. وبين الدبلوماسية والاغتيالات، وبين العقوبات والعمليات السرية، يظهر أن المعركة حول “من يحق له امتلاك السلاح النووي” لا تزال تُدار في الخفاء أكثر من العلن، حيث تتحرك أجهزة الاستخبارات والعواصم الكبرى بصمت، ولكن بأثر بالغ.