صراع طهران وتل أبيب… وتأثيراته المحتملة على الشرق الأوسط في الأيام القادمة

لم تكن عملية الأسد الصاعد الإسرائيلية ضد إيران، مجرد عملية عسكرية تقليدية، بل إعلاناً صريحاً عن مرحلة جديدة من التوحش الإقليمي، وانفلات استراتيجي غير مسبوق، يقوم على تجاوز كل أعراف القانون الدولي، وكسر قواعد الردع المتبادل، تحت غطاء الضربة الاستباقية، فالهجوم الذي طال مواقع حساسة في عمق إيران، بينها منشآت نووية وصاروخية، وأسفر عن مقتل عدد من قادة الحرس الثوري، لم يكن قراراً تكتيكياً، بل تجلياً واضحاً لمشروع سياسي إسرائيلي أكبر يدار برعاية أمريكية، يعيد تشكيل الجغرافيا الإقليمية على أساس الفوضى المنظمة.
تل أبيب منذ 7 أكتوبر 2023 تخوض حرباً متعددة الجبهات، في وقت واحد، على ستة مسارح مفتوحة: غزة، جنوب لبنان، سوريا، الضفة، اليمن، وأخيرًا إيران، هذه ليست مجرد عمليات ردع أو معارك حدودية، بل تعبير عن منهج عدواني قائم على التوسع بالنار، وفرض المعادلات من خلال القوة الغاشمة، ورغم كل هذا، ما زال النظام الدولي يمارس دور المتفرج العاجز، وسط انهيار تام لمؤسسات مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية، التي باتت أدوات شكلية فقدت قدرتها على تحقيق العدالة، وتحولت إلى عبء ثقيل على شعوب العالم، بدلاً من أن تكون مظلة للحماية.
لم تكن سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة التي طالت شخصيات رفيعة في الحرس الثوري الإيراني ضمن عملية الأسد الصاعد سوى مؤشر يكشف حقيقة أكثر خطورة: اختراق داخلي عميق بفعل خيانة من قلب الأجهزة الأمنية نفسها، هذا ما أكده الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد لشبكة سي إن إن النسخة التركية في أكتوبر الماضي، حين صرح بأن المسؤول الإيراني السابق عن مكافحة الموساد، كان في الواقع عميلاً لصالح إسرائيل، في إشارة إلى اختراق استخباراتي خطير سهل تنفيذ عمليات الاغتيالات السابقة والحالية بدقة متناهية.
هذا الاعتراف الصادم يسلط الضوء على أن الضربة لم تكن نجاحا خارجيا بحتا، بل نتاج خيانة داخلية مكنت العدو من الوصول إلى أهداف محصنة، وهو ما يضع مستقبل الأمن القومي الإيراني في مواجهة تحد وجودي يتعلق بالثقة داخل أجهزته، لا في قدراته الدفاعية أو الهجومية.. ومع ذلك، فإن الرد الإيراني السريع يؤكد أن طهران استوعبت الضربة، وتتعامل معها كحرب مفتوحة مع عدو يستخدم أدوات داخلية لتقويضها، لا مجرد اشتباك عابر بالصواريخ والطائرات.
ما تقوم به إسرائيل حالياً لا يفهم إلا في سياق أوسع من مجرد صراع إقليمي، ولذلك، فإن الولايات المتحدة، من خلف الستار، ترعى هذا الانفلات، لتقول بصوت مرتفع: كل من يفكر في الخروج من العباءة الأمريكية، فإن مصيره سيكون مشابهًا، إسرائيل هنا ليست فاعلاً حراً فقط، بل أداة استراتيجية في مشروع أمريكي يعيد تشكيل المنطقة عبر الدم والنار والحصار، والهدف أن تبقى المنطقة رهينة للقرار الأمريكي الإسرائيلي المشترك.
لكن هذا التصعيد غير المنضبط ليس بلا كلفة، الرد الإيراني جاء من خلال عملية الوعد الصادق، التي استخدمت فيها مئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وأثبتت أن الجغرافيا الإسرائيلية قابلة للاختراق. وفي خضم تصاعد العملية الإسرائيلية الأسد الصاعد ضد إيران، جاء دخول باكستان على خط الأزمة بمثابة تحول لافت في موازين التفاعل الإسلامي مع الصراع، إذ حذر وزير دفاعها بقوله “نحن إلى جانب إيران وسندعم مصالحها على كل المنصات الدولية”، هذا التصريح لا يقرأ فقط كتعبير عن تضامن سياسي، بل يفهم أيضًا في سياق القلق الباكستاني العميق من تمدد الفوضى الإسرائيلية إلى أبعد من إيران، بما يهدد منظومة الردع الإقليمي بكاملها، فباكستان، كقوة نووية، تدرك أن صمتها لن يحصنها طويلا، وأن ما يحدث قد يكون مقدمة لمنطق استباحة جديد قد يفرض على أي دولة تخرج عن الطاعة الغربية، لذا فإن تحرك إسلام آباد لم يكن انفعالا، بل رسالة استراتيجية مفادها أن سقف الاحتمال وصل منتهاه، وأن خريطة الردع قد تتوسع فجأة إن واصلت إسرائيل توهمها بأن العالم الإسلامي ضعيف.
وسط هذه الفوضى، يقف اقتصاد الشرق الأوسط على حافة الانهيار، وفقا للبنك الدولي، فإن معدل النمو في المنطقة تراجع إلى 1.2% فقط، والتجارة البينية انخفضت بنسبة 18%، مع ارتفاع تكلفة الشحن في قناة السويس بنسبة تجاوزت 60%، والأسوأ من ذلك، أن أسعار التأمين على السفن ارتفعت بأكثر من 45%، وأي تهديد جدي لمضيق هرمز الذي يمر عبره 20% من النفط العالمي، قد يعيد سعر برميل النفط إلى ما فوق 110 دولارات، ما يعني دخول المنطقة في موجة تضخم وانكماش قد تطيح باستقرار عدة دول.
إذا خسرت إيران هذه الحرب، فإن النتيجة لن تكون مجرد تراجع لدولة في صراع تقليدي، بل سيعني ذلك هيمنة كاملة للمشروع الصهيوني في الشرق الأوسط، وفرضه كمرجعية قسرية لإعادة تشكيل المنطقة وفق معايير الغلبة والإقصاء والإذعان، فالمعركة تتجاوز حدود طهران وتل أبيب، لتتحول إلى صراع وجودي بين مشروعين: أحدهما يقوم على الهيمنة والاختراق والتطبيع المفروض بقوة السلاح، وآخر يسعى لحماية الحد الأدنى من استقلال القرار الإقليمي. من يتوهم أن سقوط إيران في هذه الحرب سيقابله سلام، لا يدرك أن الوحش الصهيوني كلما انتصر ازداد شراسة ودموية، وأن الهزيمة الحقيقية هي في التراجع عن الرد، لا في خوض معركة مكلفة لكنها عادلة وضرورية.
أتوقع أنه في ظل تصاعد العملية الإسرائيلية والإيرانية، أن تتدخل كل من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوربي بقوة لوقف التصعيد وفرض مسار تفاوضي سريع، خشية انفجار إقليمي شامل يهدد المصالح الدولية.
إسرائيل، وهي تمضي في هذا المسار، تغفل أن الشعوب العربية التي تراقب بصمت، لم تعد بلا وعي أو إرادة، إن حجم الغضب المتراكم، والألم اليومي من صور القصف والدمار، يصنع وعياً جديداً، وقد ينفجر في لحظة واحدة لا يتوقعها أحد، الشعوب العربية ليست هامشاً في المعادلة.. ولا ندرى ما تخبئه الأيام المقبلة فى ظل هذا الوضع المتفجر؟!.