ميساك مانوشيان وأصدقاؤه: تاريخ الأرمن الشيوعيين في فرنسا

بعد صراعٍ طويلٍ مع الزمن والنسيان، دخل القائد الشيوعي الأرمني ميساك مانوشيان البانثيون – مقبرة العظماء في باريس – في شباط /فبراير 2024، برفقة زوجته ميليني، بصفته أحد الذين وقفوا في وجه النازية في الوقت الذي هادنها فيه فرنسيون أصليون، وهو عديم الجنسية المُشردّ.
كانت لحظة تكريمه رسالةً إلى طيفٍ من اليمين المتطرف الذي يوزع براهين الوطنية والأصالة على الناس، واضعاً كل وافدٍ أو غريبٍ على لوائح الجريمة والخطرّ والخيانة. في كتابها الجديد “مانوشيان: تاريخ الشيوعيين الأرمن في فرنسا، 1920-1990″، تعود المؤرخة الفرنسية الأرمنية أستريج أتاميان إلى أصل الحكاية منذ بدأت في دار الأيتام في عنتاب التركية، حينما حولت الإبادة التي نفذتها السلطات التركية ضد الأرمن ميساك مانوشيان إلى يتيم بلا عائلة ولا هوية.
يهتم الكتاب من خلال مسار مانوشيان بتاريخ الأرمن الشيوعيين في فرنسا، الذين مثلوا أقلية سياسية داخل الجالية الأرمنية، متأثرة بالصراعات بين القومية الأرمنية والمشروع السوفياتي، والذين بدأ مسار هجرتهم بعد الإبادة الجماعية (1915) وانهيار جمهورية أرمينيا الأولى (1920)، إذ أصبح الشتات ساحة صراع بين المؤيدين للسوفيات والمدعومين بشكل طبيعي من الحزب الشيوعي الفرنسي وأرمينيا السوفياتية. ، وبين المعارضين بقيادة حزب الطاشناق القومي، الذي رفض الاحتلال السوفياتي لأرمينيا لأنه يريد وطناً قومياً للأرمن.
وخلال مرحلة ما بين الحربين من 1920 حتى 1939 وصل عشرات الآلاف من الأرمن، ومعظمهم من الناجين من الإبادة، إلى فرنسا كلاجئين، بخاصة إلى مدن مثل مرسيليا وليون وباريس. واعتبروا في ذلك الحين “عديمي الجنسية”، وهو وضع قانوني أنشأته منظمة عصبة الأمم عام 1921 للروس الهاربين من الثورة البلشفية ومددته ليشمل الأرمن عام 1920. وقد اشتغل القطاع الأكبر من هؤلاء اللاجئين في الصناعات الثقيلة مثل مصانع السيارات والمناجم، لكن بعضهم أسس مشاريع حرفية صغيرة. في تلك الحقبة، حاول الحزب الشيوعي الفرنسي أن يستوعب مجموعات لغوية وعرقية لتنظيم العمال الأجانب، وبينها المجموعة الأرمنية بداية من عام 1924.
لكن الغزو النازي لألمانيا دفع بقطاعٍ نخبوي من هؤلاء اللاجئين إلى البروز في صفوف شبكات المقاومة، لاسيما منها المقاومة الشيوعية التي ضمت في صفوفها الكثير من الأجانب، وكان ميساك مانوشيان، الشاعر والمثقف، الذي قاد “مجموعة مانوشيان” – المكونة من 22 مقاتلاً – أشهر شخصية أرمنية في ذلك الوقت، وقد ظل كذلك، بسبب نهايته المأسوية عام 1944، عندما أعدم مع رفاقه وصورتهم الدعاية النازية كإرهابيين أجانب. وقد خلد ذكراهم الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون في قصيدة “الملصق الأحمر”. وعلى رغم أن معظم أعضاء هذه المجموعة كانوا من اليهود والإيطاليين، إلا أن مانوشيان، كأرمني، أصبح رمزاً للمقاومة الشيوعية الأجنبية في فرنسا. ومع أن المقاومة عززت مكانة الشيوعيين الأرمن، إلا أنها عمقت من حجم الانقسام مع القوميين الطاشناق.
وبعد نهاية الحرب، نظم الشيوعيون الأرمن حملة لعودة المهاجرين إلى أرمينيا السوفياتية، إذ غادر حوالى 7000 أرمني فرنسا عام 1947. لكن العديد منهم واجهوا ظروفاً صعبة في الاتحاد السوفياتي، بخاصة خلال حملات القمع الستالينية. بعضهم عاد لاحقاً إلى فرنسا، حاملاً معه تجارب مريرة. ومع تصاعد الحرب الباردة، تراجع نفوذ الشيوعيين الأرمن في فرنسا. ومع ذلك، استمروا في لعب دور وسيط بين الشتات وأرمينيا السوفياتية، بخاصة في المجال الثقافي. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وضع نهاية لهذا الحراك، إذ حل الحزب الشيوعي الفرنسي لجنته الأرمنية.
وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال أرمينيا، لا تزال الذاكرة الهشة للماضي المشترك بين الحزب الشيوعي الفرنسي والمجتمع الأرمني قائمة، في حين تتلاشى من الذاكرة آثار الحرب الباردة التي جرت أيضاً في عالم الشتات. فقد كانت الشيوعية الأرمنية ترى في روسيا حامياً. وكان انضمام جزء من الشتات إلى المشروع السوفياتي نابعاً في بعض الأحيان من الشعور بالأمن الذي يوفره انتماء أرمينيا إلى إمبراطورية قوية. وبعد أن نالت استقلالها عام 1991، أصبحت الدولة الصغيرة التي أضعفتها حرب كراباخ الأولى، تابعة لروسيا مرة أخرى. لكن هذا الاعتقاد بوجود روسيا الحامية تحطم عام 2020 خلال حرب كراباخ الثانية، ما أجبر الأرمن على إعادة النظر في نظام تحالفهم.
كيوسك: لا تزال الذاكرة الهشة للماضي المشترك بين الحزب الشيوعي الفرنسي والمجتمع الأرمني قائمة
غلاف الكتاب.
القائد الشيوعي الأرمني ميساك مانوشيان.