الانقسام اللبناني: الصراع بين الهوية الوطنية والولاء للدولة

الدكتور سمير حسن عاكوم
حين يُسأل شاب لبناني هل تحب وطنك؟ يكون الجواب سريعًا ومليئًا بالحماسة أكيد! لكن عندما يُسأل هل تثق بدولتك؟ يتردد، يبتسم ويجيب ساخرًا أية دولة؟
هذا التباين يكشف خللًا في فهمنا للانتماء، فكثيرون يخلطون بين حب الوطن والولاء للدولة، رغم أن المفهومين مختلفان تمامًا وإن كانا متكاملَين في المجتمعات الديموقراطية.
فالانتماء للوطن هو شعور في القلب مرتبط بالحب الفطري للأرض للناس للغة وللمكان الذي وُلدنا فيه. إنه انتماء عاطفي يحمل في طياته الهوية والتقاليد لكنه لا يرتبط بالضرورة بمؤسسات الدولة أو بقوانينها. فالشاب اللبناني الذي يعيش في المهجر يشعر بالحنين حيال بلده ولكن ولاءه يكون للبلد الذي يعيش فيه.
أما الانتماء إلى الدولة فهو موقف العقل، هو شعور بالانتماء إلى نظام سياسي دستوري منظّم قائم على المؤسسات، الحقوق والواجبات. هو الالتزام بالقانون، المشاركة في الانتخابات، احترام المؤسسات والمطالبة بالخدمات والعدالة بطريقة مدنية. لا يكفي أن تكون مواطنًا بالهوية كي تنتمي إلى الدولة، بل أن تؤمن بأنها تحميك، تحاسب من يظلمك وتمنحك فرصًا متساوية مع غيرك. يشارك اللبناني الذي يحصل على جنسيّة أوروبيّة في الانتخابات، يتطوع في البلدية ويعرف أين يذهب إن شعر بالظلم. فالانتماء إلى الدولة لا يعني الخضوع لنظام جائر أو الولاء لسلطة فوقية فاسدة، بل يعني الانتماء إلى دولة المؤسسات تُدار عبر إدارات مدنية محترفة تُخاطب المواطن بوضوح من دون تعقيدات، العدالة ليست خدمة وامتيازات بل حق لكل فرد والوظيفة العامة ليست منّة وهدية، لا تفرّق الدولة بين الناس حسب امتيازاتهم، بل هي نظام مؤسساتي ترعى الجميع وفق معايير موحدة: المواطنون متساوون أمام القانون لا أدوات للتحكم والسيطرة.
نعيش في لبنان انفصامًا خطيرًا موزعاً بين انتماءين وهويتين، وطن في القلب ودولة على الورق! فالخطاب الرسمي والإعلامي يبالغ في تمجيد حب الوطن بالأغاني، ويغفل ترسيخ أسس الانتماء للدولة ومؤسساتها.
إن فشل الدولة في القيام بدورها في العدالة والشفافية في الخدمات، دفع المواطن إلى انتماءات بديلة هي الطائفة، الحزب، الزعيم وحتى… السفارة. وبدلاً من أن تكون الدولة هي الحامية، تحوّلت إلى خصم أو عبء!
لا تفصل الدول الديموقراطية بين حب الوطن والانتماء إلى الدولة. فالوطن يتجسّد في الدولة، والدولة تعكس الوطن في مؤسساتها. الانتماء الحقيقي هو جمع العاطفة بالواجب، التراث بالقانون والهوية بالشرعية.
يمر بناء هذا الانتماء المزدوج في لبنان عبر إصلاح النظام السياسي ليعكس إرادة المواطنين لا مصالح الطوائف، تفعيل المشاركة السياسية من خارج منظومة المحاصصة، استعادة ثقة الناس بمؤسسات الدولة عبر العدالة والمحاسبة، ترسيخ المواطنة كعقد اجتماعي لا كامتياز طائفي.
ثمة ضرورة ملحّة لبرنامج مضاد فيروسي، سياسي مدني، يعمل على تفكيك سلطة أمر الواقع التي تشكل العقبة الأبرز أمام بناء الدولة، ونقصد سلطة الامتيازات الطائفية التي تنسف مبدأ المساواة أمام القانون وسلطة محاصصة ميليشيات المال والسلاح التي تُحكِم قبضتها على مفاصل الدولة ومقدّراتها، فهذه السلطات لا تعادي مفهوم الدولة فحسب بل تعادي أيضًا فكرة “الانتماء المشترك”، تُخرج في كل مرة يُطرَح فيها إصلاح حقيقي سلاح الهويات الفرعية وتزرع الخوف بين الناس وتفرّقهم بين طائفة وشارع ومنطقة.
إذاً، المطلوب ليس تعزيز الانتماء إلى الدولة وبناء مؤسساتها فحسب، بل تفكيك القوى التي تمنع هذا الانتماء والعمل على تطبيق حقيقي لاتفاق الطائف بوصفه الأساس الدستوري لقيام دولة مدنية عادلة، لا تُختزل في زعيم ولا تتجزأ بين طوائف.
لبنان لن ينهض فقط من الحنين… بل من العدالة، والمشاركة، والدستور و… وبناء المؤسسات.