ما أسباب عدم نجاح الحوكمة الإلكترونية في الحصول على ثقة المواطنين؟

في عصر تتسابق فيه الدول لإطلاق “منصات رقمية” وتطبيقات إلكترونية، يعتقد البعض أن امتلاك موقع حكومي جميل أو لوحة تحكّم تفاعلية يعني أننا دخلنا فعلياً عصر التحول الرقمي. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. فالتحول الرقمي في غياب الثقة، لا يساوي شيئاً.
صحيح أن التطبيقات والمنصات قد تبدو جذابة من حيث الشكل، لكنها تبقى “قشرة رقمية هشّة” إذا لم تُبْنَ على أسس واضحة: الشفافية، المشاركة، والاحترام المتبادل بين المواطن والدولة. التحوّل الرقمي ليس فقط مسألة أدوات وتقنيات، بل هو إعادة صياغة للعلاقة بين الدولة ومواطنيها.
من الدولة الإلكترونية إلى دولة المراقبة
في المفهوم النظري، تهدف الحوكمة الرقمية إلى تسهيل حياة المواطن وتبسيط معاملاته. أما في الواقع اللبناني، فنرى مشهداً مختلفاً: منصات تطلب من المواطن كل شيء—بياناته الشخصية، موقعه، دخله، أرقامه—لكنها لا تقدّم في المقابل أي شفافية حول أدائها أو نفقاتها أو حتى جدواها.
هل شاهد المواطن يوماً تقريراً علنياً عن ميزانية وزارة؟ هل رأى منصّة تحاسب جهة رسمية كما تُطالِب المواطن بالامتثال؟ في هذا السياق، تصبح المنصات الرقمية أداة للمراقبة، لا وسيلة للتطوير. وهكذا تُفقد الثقة.
لماذا لا نثق بمنصات الدولة؟
الثقة الرقمية لا تُبنى فقط بالتقنيات، بل بثقافة واضحة. وما نراه حالياً يُسهم في تعميق الفجوة:
غياب الشفافية: المواطن لا يعرف من يملك المنصة، من يديرها، ولا كيف تُستخدم بياناته.
لغة لا تشبه الناس: لغة المنصات الحكومية بيروقراطية، معقّدة، ومليئة بالمصطلحات الغامضة، وكأن الغاية ألا تُفهَم.
لا تفاعل… فقط أوامر: معظم المنصات تعمل باتجاه واحد، بلا مساحة للتقييم أو الحوار أو النقد البنّاء.
الخوف من المراقبة: في غياب قانون لحماية البيانات، يشعر المواطن أن هذه المنصات وسيلة لملاحقته وليس لخدمته.
صورة تعبيرية (وكالات)
كيف نبني ثقة رقمية؟
إذا أردنا أن يكون التحول الرقمي فعلاً خطوة إلى الأمام، يجب أن نعيد التفكير في الأسس التي يُبنى عليها:
1. تصميم المنصة مع المواطن، لا له
يجب أن تنطلق كل منصة من ورشة تفكير جماعية تشمل المواطنين، البلديات، والنقابات. لا يجب فرض المنصة من فوق، بل بناؤها من تحت.
2. الشفافية المطلقة
على كل منصة أن تعرض بوضوح: من يديرها؟ من يموّلها؟ أين تُخزّن البيانات؟ كيف تُستخدم المعلومات؟
3. إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن
الحوكمة الرقمية ليست “خدمة أسرع”، بل وسيلة لإعادة توزيع القوة. يجب أن يكون المواطن شريكًااً، يُراقِب كما يُراقَب، يُقيِّم كما يُقيَّم.
لبنان: فرصة ضائعة أم لحظة تأسيسية؟
في بلد مثل لبنان، حيث الثقة بين المواطن والدولة شبه معدومة، والدولة نفسها هشّة، يكمن التحدي… والفرصة. لا حاجة لـ”تحوّل فاخر” أو مشاريع كبرى. يمكن البدء من البلديات، من منصات محلية صغيرة، لكن حقيقية، شفافة، وتفاعلية.
لبنان قادر على أن يُقدّم نموذجاً فريداً يبدأ من احترام المواطن وإشراكه. صحيح أن مشاكل البلد لن تُحلّ بتطبيق إلكتروني، لكن يمكن أن تبدأ الثقة من منصة واحدة، صُمّمت بصدق، وتواضعت فيها الدولة، وشاركت الناس القرار.
في النهاية، التحوّل الرقمي ليس مشروعاً تقنياً، بل وعد اجتماعي جديد: نحن نحترمكم… فساعدونا لنُعيد بناء هذا الوطن.
**جاك جندو، رائد أعمال وخبير في التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، والرئيس التنفيذي لشركة “Brain Digits”.