ماجدة داغر تتفوق على اختبار جمع التكسير

ماجدة داغر تتفوق على اختبار جمع التكسير

في قصيدة “الناجيات من جمع التكسير”، الصادرة عن “دار مرفأ” وهي الرابعة لصاحبتها، بعد “آية الحواس”، و”جوازاً تقديره هو”، و”ملتئماً بالماء كغريق الطوفان”، تتناول ماجدة داغر تاريخ النساء، في محاولاتهن المستميتة للنجاة من براثن الجمع وأحكام الجماعة، وتصبّ موضوعتها في نشيد ملحمي النفس، يمتدّ على مساحة 80 صفحة. وبذلك، تطيح شرطي الإيجاز والمجّانية من شروط سوزان برنار، وتحتفظ بالشرط الثالث بحيث يتوهّج نصّها بين صفحة وأخرى. وتتعاقب أسطره الشعرية في حركة موجية، وفق إيقاع معيّن يراعي حركة المدّ والجزر، ما يجعل من القصيدة بحراً أمواجه الأسطر المتعاقبة، أو نهراً من الأسطر المتدفقة وفق إيقاع معين. على أنّ داغر تلعب دورين اثنين في قصيدتها الطويلة؛ دور الرائية التي ترى وتعبّر عمّا تراه سرداً ووصفاً، ويشغل 76 صفحة، ودور العرّافة التي تتنبّأ وتنصح، ويقتصر على الصفحات الأربع الأخيرة من القصيدة. والدوران يتكاملان في إطار الأنا الشاعرة. 

من النعاس إلى الفجر
 وفي هذا الإطار، ترصد انتقال النساء من جمع التكسير إلى جمع المؤنث السالم، طلباً للنجاة، أو انتقالهن من حالة النعاس التاريخية التي ترادف الخمول والنوم والجمود إلى حالة الفجر التي ترادف اليقظة والنهوض والتقدّم. وهو ما تعبّر عنه الشاعرة في بداية القصيدة بالقول: “اللواتي استبدلن بالفجر تعويذة النعاس…”، وتتكرّر هذه العبارة كلازمة خمس مرات، في مواضع متفرّقة من القصيدة، ما يجعل منها سلكاً ينتظم السرد الشعري، ويؤمّن وحدة القصيدة العضوية.

 

“الناجيات من جمع التكسير“. (دار مرفأ)

 

والمفارق، في هذا السياق، أنّنا إزاء فرار من جمع إلى جمع، ما يلغي فردية النجاة التي نادراً ما تكون جماعية، لا سيّما حين نعرف أن ثمّة قتيلة واحدة، لا غير، على الضفّة الأخرى، تتحدّث إليها الناجيات، خلال عبورهن طريق النجاة إلى الموت. وهنا، يصبح الموت، بالانزياح الشعري، مرادفاً للحياة. ذلك أنّ منطق التاريخ النسائي يفترض أنّ القتيلات أكثر من الناجيات لا العكس. وفي رصدها حركة الناجيات من جمع إلى آخر، تتناولهن داغر الرائية، في أحوالهنّ المختلفة ومقاماتهنّ المتعدّدة، بدءاً من تسمّرهنّ خلف الستائر، مروراً باكتظاظهنّ بالرغبات، وانقضاضهنّ على اللحظة، واجتراحهنّ الحيوات، وعبورهنّ الطريق، وأقدارهنّ المثقوبة، وتجشّمهنّ المشاقّ …، وصولاً إلى إدراكهنّ جوهر هوّيتهنّ في نهايات القصيدة: “نحن الجوهر والأصل / نحن الشرق والغرب / نحن الجهات المسافرة / نحن أنثى الطين / وحكاية ما قبل الضلع / ردّدت الناجيات” (ص 96). وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الشاعرة الرائية ترصد الناجيات في سكونهنّ وحركتهنّ؛ فتستخدم في الحالة الأولى الجمل الاسمية، كما في قولها: “هنَّ / العابرات، العاثرات / العامرات، الغائرات / الغابرات، الغادرات / الفارقات، الفاديات / القادرات، القاصرات/ الكادحات، الكاسحات، الكابحات ….” (ص 50). وتستخدم الجمل الفعلية في الحالة الثانية، كما في قولها: “تغرّبن / تحت أجنحة الشمس / تركن المساء وحيداً / أعتقن الشهوات من جدلية الذنوب / وأرضعن/ صغار الذئاب / عند منتصف الرِّدَّة” (ص 49). وقد تسخدم النوعين معاً حين تصفهن في حالة السكون المتحرّك، كما في قولها: “العائدات/ من الجرح الميمون / وقفن متلاصقات / لئلا يصاب الضلع / بهذيان الطين […] الوافدات من الفجيعة / يتناوبن / على القصائد / يسكبن / على جلدها الطيوب / وعلى قوافيها البدايات” (ص 39، 40). هذا التنوّع في الجمل يندرج في إطار تنوّع أكبر يتعلّق بصيغ الكلام، حين تنتقل الشاعرة بين الغائب والمتكلّم والمخاطب في قصيدتها، تبعاً لمقتضى الحال.

إيقاع داخلي
تتخاطر “الناجيات” “مع ثقافات العالم من دون أيّ حصرية تحيّزية لزمان أو مكان بعينه”، على حدّ إشارة الأكاديمية السعودية فوزية أبو خالد في تقديم الكتاب. وهو ما يفسّره استخدام الشاعرة الكثير من الرموز، الأسطورية والأدبية والشعرية والتاريخية والسياسية والدينية، وإدخالها في نسيج القصيدة، بحيث تبدو جزءاً منها وغير مقحمة عليها، ما يعزّز ملحمية النفس في القصيدة، ويشي بسعة ثقافة الشاعرة وتنوّع مخزونها المعرفي. 

 

الشاعرة ماجدة داغر. (فايسبوك)

الشاعرة ماجدة داغر. (فايسبوك)

 

وإذا كانت “الناجيات” تندرج في إطار قصيدة النثر، ولا أقول الشعر المنثور، وتفتقر إلى الإيقاع الخارجي المتمثّل بالوزن والقافية، ما يتوافر في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، فإنّ القصيدة تقوم على الإيقاع الداخلي، سواء على مستوى المفردة أو التركيب أو المقطع؛ فعلى المستوى الأول، تتواتر كلمات معيّنة في صفحة واحدة أو صفحات عدّة، من قبيل: جمع المؤنّث السالم، الفعلان الماضي والمضارع لجمع الإناث، اسم الموصول، أداة النداء، الضمير المنفصل، وغيرها، ما يترتّب عليه حركة إيقاعية بدرجة معيّنة. وعلى المستوى الثاني، تتعاقب تراكيب متشابهة وفق وتائر مدروسة، ما يحدث درجة أعلى من الإيقاع، من قبيل: إسم الموصول وصلة الوصل، صيغة النداء، صيغة الأمر، صيغة النهي، صيغة الاستفهام، الجملة الاسمية المؤلّفة من ضمير منفصل وخبر، الجار والمجرور، وغيرها. وعلى المستوى الثالث، نقع في بعض الصفحات على مقاطع متشابهة التراكيب ما يضيف درجة أخرى من الإيقاع الداخلي. وهذه الإيقاعات، على أنواعها، من شأنها أن تخفّف من نثرية القصيدة. 

في “الناجيات من جمع التكسير”، تثبت ماجدة داغر نفسها الشعري الطويل، من دون أن تكون الإطالة على حساب الشعرية، فتتدفّق الأفكار والصور، في حركة موجية، وتلامس ضفاف الشغاف، ما يجعل قراءتها محفوفة بكثير من “الإمتاع والمؤانسة”.