القدرة في وجه الضعف: اللبنانيون كحالة دراسية!

القدرة في وجه الضعف: اللبنانيون كحالة دراسية!

عبد الرحمن عبد المولى الصلح

 

شهِدَت تشيكوسلوفاكيا عام 1968 نواة لحياة ثقافية متحرّرة من ضغوط النظام السائد آنذاك، تجسَّدت بأعمال مسرحيَّة وكتب ومقالات أثمرت حركيّة سياسيّة، أُطلِقَ عليها “ربيع براغ”، الذي لم يُدَم نتيجة تدخل موسكو وإجهاضها لحركة التحرّر. يومَها، كتب المسرحي الشاب فاكلاف هافل مقاله الشهير “قوّة الذين لا قوّة لهم!”، لم تقتصر فحواه فقط على الوضع الداخلي في بلاده بل أيضاً على بلدان أخرى. دفع هافل الثمن بسوقه إلى السجن. لكنه بعد عشر سنواتٍ تبيّن أن مقاله الشهير مهَّد له الطريق لتولّي رئاسة الجمهورية. في مقاله ذلك، تساءل هافل عن مقدار السلطة والقوة التي بإمكان المجتمع أن يحظى بهما…. ضمن النظام المسيطر على مقدّرات الأمور. وتساءل هافل عن معنى معارضة النظام، وعن أيّ دور للمعارضة بالإمكان أن تلعبه في بيئتها، فضلاً عن أسئلة أخرى أدّت إلى خلاصة تُحتّم قيام من لا قوة لهم بفحص ديناميكية السلطة، التي تتحكم بهم. باختصار، خلُص هافل إلى أن النظام إذا كان يعيش في كذبةٍ، يُلزم بها النَّاس، فإنّ العيش في الحقيقة هو ما يهدّده ويُزلزل أركانه، ويُشكّل أعتى معارضة لنظام يقهر ويمنع السياسة والعيش في الحقيقة. يعني باختصار أن يعي المواطن أهمّية اختيار السلوك الأفضل على جميع المستويات… فأن تُجيد عملك هو أن تتحدّى تلك السلطة لأنك بذلك تبرز قوتك في نظام يمنعك من أن تبرزها، ثُم إن الحياة المستقلّة تصبح لاحقاً بنى موازية لبنى السلطة، والتي لاحقاً تتوحّد وتندمج لتصبح مجتمعاً موازياً تتبلور فيه سلطة فعّالة، تُلزم السلطة بالتعامل معها في ظرف ما. للتذكير، مقال هافل المُشار إليه كُتب ونشر قبل عامين من تأسيس حركة التضامن العمالية، والتي ألزمت السلطة لاحقاً بالتفاوض معها؛ وبعدها تسلّمت هي السلطة!! (حازم صاغية، “كيف تعيش  كمنشق يقيم في الحقيقة”، “الشرق الأوسط” 18-6-2023).

 

الأوضاع المتردّية السائدة على أكثر من صعيد، واللامبالاة التي يبديها اللبنانيون، حفّزتني للتذكير بمقْوَلَة هافل السابق ذكرها، واستتباعاً طرح سؤال المليون دولار: أين هي قوة اللبنانيين الذين لا قوة لهم؟! لماذا لا يصرخون؟ لماذا لا يتّحدون ليصبحوا الأقوى لوضع الأمور في نصابها؟ وإذا كان التشيك نجحوا في زعزعة النظام القائم بعد سنوات من انتفاضة 1968، بالرغم من قساوة وجبروت ذلك النظام، فلماذا لا ينجح اللبنانيون في قلب المعادلة السائدة بهدف الوصول إلى لبنان الواحد الموحّد المتجرّد من الزبائينة السياسية والمصالح الشخصية… لبنان الديموقراطي العلماني المتعولم، لبنان الرسالة؟! وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالنتائج الكارثية التي لحقت بلبنان، وبصورة خاصة بالجنوب اللبناني، والدمار الهائل الذي تسبّب به العدوان الإسرائيلي العام الماضي، وأخيراً على الضاحية، إضافة إلى المآسي التي لحقت بأهلنا وأحبائنا في الجنوب، هم الذين لا قوة لهم… ألا يستحق استنهاض قوتهم لمساءلة “حزب الله” عن حرب الإسناد التي شنّها على إسرائيل، وتسبّبت بكلّ ما تسبّبت به من كوارث على مختلف الصعد؟!

 

استبشر اللبنانيون خيراً بالرئيسين عون وسلام؛ فالثابت أن نظافة كفّيهما، ونزاهتهما لا غبار عليها… لكنه مع مضي 5 أشهر على انتخاب عون رئيساً للجمهورية، وتكليف سلام برئاسة الحكومة، لم تلمس الناس حتى حينه  لمس اليد أيّ مُعطى إيجابيّ. وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر، نختلف سياسياً مع الرئيس الراحل بشير الجميّل، لكن الثابت أن انتخابه لمن يتذكَّر، نتج عنه تصحيح الاعوجاج الذي كان مسيطراً على الإدارة اللبنانية؛ ولقد لمس الناس ذلك لمس اليد في الأيام العشرة الأولى لانتخابه. نقدّر ونثمّن حرص رئيس الجمهورية على وضع الأمور في نصابها، لكنه حين يصرّح بأن البلد مسروق، فالناس تعقّب قائلة: نعرف ذلك! لكن السؤال الأهم أين هم السارقون؟ ولماذا لا تتم إحالتهم على القضاء؟ يعلم الناس أن الأمور لن تستقيم بلمح البصر، لكنهم أيضاً يميلون إلى الاعتقاد بأن الأمور ستراوح مكانها، وأن المماطلة في أخذ القرار هي السائدة! ولعلّ موضوع نزع سلاح “حزب الله”، الذي أضحى جزءاً لا يتجزّء من يوميات خطاب الرئيسين، أبسط مثال على ذلك! وأقترح حفاظاً على حساسية الموضوع أن تُستَبدَل كلمة نزع سلاح “حزب الله” بـ “تنازل حزب الله” عن سلاحه، فلعل ذلك يحفظ ماء الوجه. الجدير بالذكر، حسب ما أوردته صحيفة “يديعوت أحرنوت” (9-6-2025)، أن “حزب الله” يُركّز على تخصيص الميزانيات لإنتاج المسيّرات بدلاً من الصواريخ! التقدّم نحو الأفضل… تقدّم بطيء، والبطء يُرخي بظلاله على الزخم الذي رافق انتخاب الرئيس جوزف عون وتكليف الرئيس سلام بترؤس الحكومة. فالمعادلة واضحة وضوح الشمس؛ فإسرائيل العدوّة لن تكفّ عن اعتداءاتها طالما أن طهران لا تزال تعمل على تفعيل البنى العسكرية التابعة لـ”حزب الله”؛ وكما أن اسرائيل لا تزال تحتلّ المواقع الخمسة في الجنوب فهي أيضاً توغّلت في الحدود السورية. لكن الرئيس السوري أحمد الشرع حزمَ أمره، ولم يأمُر بإطلاق رصاصة واحدة على القوات الإسرائيلية، بل اتّسم رده بخطاب عقلاني، لأن هاجسه هو تحصين الوضع الداخلي، وإن أكثر من تقرير أشار إلى محادثات إسرائيلية-سورية. وبتنا نقرأ عن مشاريع ضخمة في داخل سوريا في المجالات كافّة. قد يقول قائل إن الشرع وصل إلى ما وصل إليه بعد زوال الوصاية الإيرانية على سوريا والرعاية الأميركية والخليجية. تُرى هل ما سبق هو المطلوب، والملحّ لإعادة الروح إلى تفعيل الزخم الذي ساد في بداية العهد؟

 

لقد حفظنا عن ظهر قلب تصريحات النائب محمد رعد، وكان آخرها، بعد اجتماعه الأخير مع رئيس الحكومة، بأن الحوار مع رئيس الجمهورية حول موضوع السلاح لا يزال مستمراً؛ وخوفي أن الحوار قد يستمرّ خمس سنوات أخرى! لكن أليس من الأفضل والأجدى أن يبدأ الحوار مباشرة مع طهران الراعي الأساسي لحزبه في لبنان؟! شهدنا تجربة ناجحة عام 1958 حين أقنع الراحل الكبير الرئيس الأمير فؤاد شهاب (وهو يستحق كلّ تلك الألقاب) جمال عبد الناصر، وكان يومها المهيمن على المنطقة بشكل أو بآخر، بأن يكفّ عن التدخل في الشؤون اللبنانية، وبأن استقرار لبنان يعود بالفائدة على البلدين… فلماذا لا يبدأ الحوار اليوم قبل الغد مع طهران، خاصة أن تهريب السلاح لـ “حزب الله” عبر الحدود مع سوريا قد تضاءل نتيجة الإجراءات الصارمة التي اعتمدها النظام الجديد على الحدود البرية! وفي سياق المماطلة تسأل الناس: لماذا لم يتمّ لحينه إحالة رياض سلامة على المحاكمة، خاصة أن مدة توقيفه قد تخطّت الستة أشهر، وهذا مخالف للقانون. في لقاء خاص جمعني بسفير مُعتمَد في لبنان، قال لي إن خطايا رياض سلامة لم يرتكبها أي حاكم مصرف مركزي في العالم! وحتى في الأنظمة التوتاليتارية السلطوية قد يستفيد رئيس النظام من عمولات وصفقات من هنا وهناك لكن التاريخ لم يُسجّل أن اليد وُضِعَت على ودائع الناس كما حدث مع الأسف مع ودائع الناس في المصرف المركزي اللبناني. تم توقيف رياض سلامة بقضية اختلاس 44 مليون دولار، لكن ملف اختلاس وسرقة أكثر من 330 مليون دولار (ملفّي “فوري” و”ابتيموم” ) لا يزال قيد الأدراج. هل يعود ذلك لأن فتح الملفين سوف يطال رؤوساً كبيرة؟! في السياق نفسه، يميل الناس إلى الاعتقاد بأن التحقيق بفضيحة الأدوية المزوّرة، وهي كارثة بكلّ معنى الكلمة ونموذج صارخ للفساد والعفن الذي ينخر بالعباد، سوف يراوح مكانه! ويُقال إن أركان فضيحة الأدوية المزوّرة يُشكّلون مجموعة تضمّ عناصر أمنية وأصحاب نفوذ من سياسيين وغيرهم. أيضاً، وفي سياق المماطلة يندرج ملف التعيينات.

 

استبشر الناس خيراً بالآلية التي اعتمدها الرئيس نواف سلام، ولكن يبدو أن تطبيقها دونه عقبات، بدليل أن المراجع السياسية كما كان الحال في السابق توصي بمن يحلو لها كي يشغلوا المناصب الشاغرة… بالرغم من عدم توفر ما يلزم من كفاءة ونزاهة لمرشحيهم! وإذا كان الأمر كذلك فعن أيّ تغيير نتحدّث؟ ولماذا التهاون وعدم الإصرار على وضع الأمور في نصابها؟! يقول الناس: صحيح أن بعض القضايا تتطلّب وقتاً (إقرار قوانين إلى ما هنالك) لكن ما الذي يمنع وزير الداخلية أن يوعز لقوى الأمن بتسيير دوريات مكثفة لحلّ أزمة السير الخانقة، التي ترهق المواطن وتزيد من عذابه! وإذا كانت المشكلة بنقص في العديد فلماذا لا يطلب مساندة عناصر من أمن الدولة لتسيير دوريات مكثفة مشتركة، وبشكل متواصل، خاصة بعدما أضحت الشوارع مواقف سيارات!

 

الرئيس السابق ميشال عون وعد اللبنانيين بجهنم … ولقد صدَق وعده! وأميل إلى الاعتقاد بأن عهده كان من اسوأ العهود، لا بل إن لبنان لن يشهد عهداً أسوأ منه! استبشر الناس خيراً بالرئيسين عون وسلام، وأَملوا في أن يدخلوا الجنّة! لكن الخوف في غياب الأفعال واعتماد الحلول المبنيّة على التسويات أن يطول الأمر فيصبح الوصول إلى الجنة… بعيد المنال!

 

عن استنهاض ليس فقط “قوة من لا قوّة لهم” بل جميع اللبنانيين، يخطر في البال الراحل الكبير الرئيس الأمير فؤاد شهاب، الذي من خلال عزمه وحزمه وحوكمته ووطنيّته وتجرُّده بنى دولة الاستقلال بعد الحصول على استقلال الدولة والتعبير للرئيس شهاب، فأرسى دولة المؤسسسات، ومهَّد الطريق لاستقرار ساهم في خلق قوة للبنانيين جميعاً من دون استثناء، وساهم في استنهاض قوّتهم جميعاً من دون استثناء. وأملنا كبير في أن يحذو الرئيس عون حذو ذلك العملاق!