قرنايل… تجربة العيش المشترك | النهار

ليليان خوري
حين يتحوّل المفقود من مجرد رقم في سجل المفقودين قسراً إلى مشروع وطني وبالتالي إلى قضية سياسية واجتماعية تحمي العيش الواحد بين جميع مكوناته.
قبل ستة وثلاثين استُدرجَ المغدور ميلاد نعوم الخوري إلى لقاء مع بعض الأشخاص. فتمَّت تصفيته حينها بدمٍ بارد دون وجه حقّ، سوى لعنة الحرب الأهلية التي حطّت أوزارها في قلب الوطن لتتمدّد أكثر في نفوس بعضٍ ممّن لم يقيموا وزناً للعشرة أو للعيش المشترك الذي لطالما تميّزت به بلدة قرنايل العابرة للطوائف وللطائفية.
ستة وثلاثون عاماً من فَقْدِ عائلة خوري إلى الوالد والأخ وابن العّم ميلاد، عانت فيها الأمرّين في البحث عن أي خبر يثلج قلبها وتروي اشتياق أبناء المغدور في معرفة أي معلومة من شأنها الكشف عن مصيره.
غيرَ أن مع تنظيم الحكومة للانتخابات البلدية، ومع احتدام الأجواء الانتخابية، والتنافس الحامي بين المرشحين شاءت العناية الإلهية أن يتسرّب إلى مسامع العائلة تسجيل صوتي يؤكّد حصول الجريمة بحق ميلاد الخوري والإشارة إلى هوية الجناة الحقيقيين.
إيذاء هذه الحقيقة الدامغة والقاسية. تقبّل ذوو الضحية الخبر كما سائر عائلات المرج بحزنٍ كبير، إلا أنهم اعتبروا أن الدماء التي سفكت من ميلاد لن تكون سبباً أو حافزاً لا للثأر أو لأي شكوى قضائية أو للشرخ بين الطائفتين المسيحية والدرزية. بل ستكون نبراساً يضيء القلوب المظلمة والعقول العقيمة.
أصدرت العائلة بياناً أكدت فيه أن شهادته لن تكون إلاّ جسر تواصل وانصهار صلب يقرّب الأخوة من الطرفين وسداً منيعاً في وجه أي فتنة أو حوادث دموية على غرار ما حصل زمن الحرب.
دفع ميلاد الخوري حياته ثمناً لحربٍ عبثية لم تجلب على الجميع إلا الويلات والخراب. وخسر كآخرين حضورهم بعد أن طواهم الزمن إلى الآن في غياهب النسيان إلا من ذاكرة أحباء ما يزالون يكافحون من أجل معرفة مصير كلّ المفقودين ويحثّون الدولة اللبنانية لمعالجة هذا الجرح النازف منذ زمن بعيد.
أسدلت عائلة خوري ومعها جميع عائلات مرج قرنايل الستارة عن قصّة حزينة عاشتها كحال العديد من العائلات، ووأدت معها كل ملامح الانقسام أو الحقد.
عائلة الخوري جعلت من جسد ميلاد قرباناً للصلاة عن روحه في 21 حزيران/يونيو عند الساعة الثالثة بعد الظهر في كنيسة مار الياس في قرنايل.
حوّل أهل المرج بوعيهم الإنساني والوطني الحقيقة المرّة عنواناً للتلاقي من أجل الصلاة مع الجميع دون استثناء عن راحة ليس فقط ميلاد بل كل الأبرياء الذين دفعوا حياتهم ثمناً في حرب الآخرين على لبنان وجعلوا من حقيقة استشهادهم وقوداً للعيش الواحد الموّحد.
وتأكيداً على صون اللحمة بين الأخوة ستتم تسمية شارع باسم ميلاد نعوم الخوري كبادرة حسن نية بين الجوار وكتعويض رمزي ومعنوي على المأساة، ليصبح في المستقبل شاهداً على مآسي الحرب ورادعاً كي لا تتكرّر فلا ننجرُّ إليها طوعاً أو قسراً.