الصين من منظور داخلي: دراسة عن الثقافة السياسية الصينية

صدر عن “بيت الحكمة للثقافة” في القاهرة كتاب جديد للباحث والأكاديمي المتخصص في الشأن الصيني الدكتور أحمد السعيد، بعنوان “الصين من الداخل: ثقافة العقل السياسي الصيني – من كونفوشيوس إلى شي جين بينغ”.
يمثّل هذا الكتاب إضافة نوعية في مجال دراسات الصين، ويخاطب جمهوراً واسعًا من الباحثين، وصنّاع القرار، والمهتمين بالفكر السياسي المقارن. وقد رُوعي في بنائه الجمع بين المنهج التحليلي الرصين والأسلوب السلس المدعوم بالمصادر الأصلية، بما يجعله مرجعاً لفهم الصين من داخل منطقها الثقافي، ويملأ فراغاً واضحاً في المكتبة العربية حول هذا الموضوع الحيوي. لا يقدّم هذا الكتاب قراءة من الخارج، بل من داخل التجربة الصينية ذاتها. إذ ينطلق من قناعة أساسية بأن فهم الصين يتطلب الاقتراب من مفرداتها الفكرية، ونظامها الرمزي، والمنظور التاريخي الذي يُعيد فيه الحاضر قراءة الماضي، ويستبطن الثقافة كأداة من أدوات السلطة، لا كمجال منفصل عنها. ويبتعد المؤلف عن الأطر التحليلية الغربية التي تُسقِط مفاهيم الديموقراطية، والدولة، والحداثة، على الحالة الصينية، ويُعيد تأطير السؤال: كيف تُنتج الصين قراراتها؟ وكيف تبني مشروعها السياسي من داخل منطقها الفلسفي والثقافي الممتد؟ وكيف تتحول المفاهيم القديمة مثل “التناغم” و”السيادة” و”الانضباط”، إلى أدوات إدارة في الحكم المعاصر؟
يتألف الكتاب من أربعة أبواب، تضم 12 فصلاً، تغطي مساراً ثقافياً سياسياً متكاملاً. وتشكل أبواب الكتاب رؤية تحليلية شاملة لمسار تطور “العقل السياسي الصيني”، بداية من الجذور الفلسفية والفكرية، مروراً بالتحولات الثورية والبراغماتية، وصولًا إلى الممارسات الناعمة في العصر الحديث.
الدكتور أحمد السعيد.
الباب الأول: الجذور الفلسفية والثقافية للهوية السياسية الصينية، يؤسس لفهم المفهوم الصيني للثقافة، الذي يختلف بعمق عن المفهوم الغربي. ويقول أحد السعيد: تُقدَّم الثقافة هنا بوصفها نظاماً معيارياً وأخلاقياً يحكم السلوك السياسي، وليست مجرد نتاج رمزي أو إبداعي. يتتبع الكتاب في هذا الباب تطور العلاقة بين الكونفوشيوسية والدولة، وتأثير البوذية والطاوية على بنية الحكم، ويعرض كيف تحوّلت مفاهيم مثل الطاعة، والسيادة، والانضباط الجماعي إلى أدوات لتشكيل المواطنة والإجماع السياسي.
الباب الثاني: التناغم بوصفه جوهراً للفكر السياسي التقليدي، يناقش أحد أبرز المفاهيم الصينية: “التناغم”، وهو لا يُطرح هنا كمجرد دعوة إلى السلام الاجتماعي، بل كإستراتيجية لإدارة التعدد والسيطرة الرمزية يتتبع المؤلف كيف تطوّر التناغم من مبدأ كوني في “كتاب التغيرات”، إلى إطار فلسفي لإعادة ترتيب السلطة، وتوزيع الأدوار بين الحاكم والمحكوم، ثم إلى أداة ديبلوماسية لتنظيم علاقات الصين الخارجية. كما يكشف الكتاب كيف تم توظيف هذا المفهوم لضمان الشرعية الأخلاقية للنظام، وتحقيق “الاستقرار المتناغم” الذي يُعدّ نقيضا للفردانية والاحتجاج.
الباب الثالث: “من الثورة إلى الواقعية – التحولات الثقافية في القرن العشرين”، يتناول مرحلة تأسيس الصين الجديدة وتحولات الفكر السياسي من ماو تسي دونغ إلى دنغ شياو بينغ. يركّز على الطريقة التي أُعيدت بها قراءة المفاهيم الثقافية القديمة في سياق الثورة، وكيف احتفظت الدولة الصينية، رغم تبنيها الماركسية، بعناصر خطابية مستمدة من التراث الكونفوشيوسي. يحلل المؤلف الخطابات الرسمية التي جمعت بين “المساواة الشعبية”، و”مركزية الدولة”، ويستعرض كيف أعادت الدولة الصينية تأويل رموزها الثقافية لتبرير التغيير الجذري، ومن ثم لتسويغ الانفتاح البراغماتي في عهد دنغ. هذا الباب لا يعالج التاريخ فقط، بل يكشف كيف يُعاد إنتاج الثقافة في كل مرحلة كمورد سياسي مشروع.
الباب الرابع: “الصين في عهد شي جين بينغ – نحو خطاب عالمي برؤية ثقافية”، يركز على المرحلة المعاصرة بوصفها لحظة استعادة واعية ومؤسسية للثقافة كأداة نفوذ وشرعية. يفصّل الكتاب مفاهيم “الحلم الصيني”، و”طريق الحرير الثقافي”، و”مجتمع المصير المشترك للبشرية”، ويُبيّن كيف توظف الصين هذه المفاهيم في بناء خطاب دولي بديل للهيمنة الغربية.
كما يناقش الدور الجديد للمؤسسات الثقافية مثل مراكز كونفوشيوس، والإعلام الصيني الخارجي، ومنظمات إقليمية كـ “منظمة شنغهاي”، بوصفها أدوات ناعمة تمثل “بنية تحتية رمزية”، تُعيد من خلالها الصين إنتاج نفوذها من دون مواجهة مباشرة. ويمثّل هذا الباب تتويجاً للكتاب، إذ تُقدّم فيه الصين بوصفها دولة ذات مشروع فكري متكامل، لا مجرد لاعب في النظام الدولي.
والدكتور أحمد السعيد هو مؤسس ورئيس “بيت الحكمة للثقافة”، ويُعدّ من أبرز المتخصصين في الشأن الصيني في العالم العربي. حاصل على “جائزة الدولة الصينية للإسهام المتميز في مجال الكتاب”، و”جائزة الصداقة” من الأكاديمية الصينية لتاريخ الحزب، وجائزة الصداقة ليو بان شان. ويشغل حالياً منصب أستاذ زائر في جامعة الاتصالات الصينية (CUC)، وله خبرة أكاديمية وميدانية تمتد لأكثر من عقدين في الترجمة، والتحليل، وبناء العلاقات الثقافية الصينية- العربية.