بأقلام النساء: تجارب فريدة في تحليل الوجود الإنساني

بأقلام النساء: تجارب فريدة في تحليل الوجود الإنساني

عبر كتابة رائقة، وإنسانية للغاية، تتسرب رهانات السرد لدى الروائية المصرية عزة رشاد، في روايتها الجديدة “بالحبر الطائر” الصادرة في القاهرة حديثاً عن “دار الكتب خان”، إذ تعاين عالماً مختلفاً عن روايتيها السابقتين “ذاكرة التيه”  و”شجرة اللبخ”، وتخوض مغامرة جمالية تغاير في طبيعتها البنائية والموضوعاتية نصوصها القصصية “أحب نورا.” “أكره نورهان”، “نصف ضوء” و”حائط غاندي”.

وهنا في نصها “بالحبر الطائر” ثمة مرويات  نسوية متواترة يفصل بينها راوٍ رئيسي (ناجي)، هو ابن بطلة الرواية (د. نعيمة النجمي)، صانعة غروب “الفور إن” على تطبيق “واتس آب”، إذ توظف الكاتبة الفضاء الافتراضي توظيفاً دالاً عبر استخدامها آليات التكنو سرد هنا. فثمة مجموعة خاصة، تضم كلاً من: نعيمة أو نعومي كما أطلقت عليها صديقاتها، ونجوى أو نوجا، ونسمة، ونادين. نساء أربع بحكايات ممتدة، ومدن مختلفة. شخوص متعددون، وفضاءات جغرافية تمتد من “منية عاصم” في محافظة الدقهلية المصرية، إلى “مانهاتن” في الولايات المتحدة الأميركية، ومن القاهرة إلى نيويورك، ومن الإسكندرية إلى باريس، ولندن.

ومن لحظة الكشف تبدأ الرواية، من الغروب الذي لم يعد فاعلاً، فيبدو في جوهره مصنوعاً لتبديد الوحشة، حيث المغتربات الثلاث ( نجوى ونسمة ونادين)، ووصلهن بالوطن، عبر صديقتهن التي لم تزل في القاهرة نعيمة النجمي. علائق متشابكة، وتقاطعات ممتدة يتداخل فيها الماضي مع الحاضر، وتصبح الذكرى هي ذلك الفردوس الذي لا يمكن أن يطرد منه الإنسان أبداً.

تقبع نعيمة في الذكرى حين تصبح وحيدة بعد ابتعاد الابن ناجي، والزوج حسام إدريس عنها، ويصبح استحضار الذكرى عوناً على جبه الواقع،  ولكل امرأة منهن طريق تعاينه، ومسير تقطعه وحدها بعد أن جمعتهن ذكريات الجامعة، والشباب، والنزق البعيد.

تقترب الرواية من نحو ثلاثمئة صفحة من المتن الكمي للسرد لن تجد فيها نتوءات زائدة، أو استطرادات مجانية  أو ترهلاً في البناء. كل شيء يأتي في موضعه ومساره السردي منساباً متدفقاً.

 

غلاف الرواية. (دار الكتب خان)

 

بنية السرد 
يقطع السرد عناوين فرعية تمثل علامات على الفصول الروائية، التي تتآزر في ما بينها لتشكل طيف الوحدة،  والاغتراب، وتأمل الذوات والمصائر، ويبدو ناجي حجر زاوية في البناء السردي، لا لأن يده وقعت على الأوراق المكتوبة بالحبر الطائر لأمه، ولا لكشفه عن ملفات الغياب المروية عن صديقات أمه وعبر لسانهن فحسب، ولكن لأن حضوره جعلنا كأننا أمام رواية داخل الرواية، غير أنها مرويات متشظية، ومتناثرة، وموزعة على الملفات في اللابتوب. خليط من اللعب الفني تنسجه الكاتبة بمهارة، وتنتقل فيه من الخاص الى العام، وتجدل فيه بين الذاتي والموضوعي. 

من دوستويفسكي تصدر الكاتبة روايتها بعبارة دالة، تعد جزءاً من الدلالة الكلية للعمل: “إياك أن تظن أنك عرفتني لمجرد أني تحدثت إليك”.
ويبدو الاستهلال الروائي بمثابة التقديمة الدرامية للنص، حين يحيل إلى أجواء الاغتراب النفسي الذي تحياه الساردة: “منذ ثلاثة أيام اختفت قطتي”، ويحوي الاستهلال أيضاً الإشارة النصية إلى عنوان الرواية “بالحبر الطائر”، بعد أن صارت د. نعيمة وحيدة تماماً، تخشى الوقوع في فخ الانتحار: “ويبدو أنني خفت من انجراف تفكيري بسرعة، نحو الجهة الأخرى، فيجدونني معلقة في أنشوطة بسقف الحمام، أو متدلية من بين حبال الغسيل، لذا بادرت بالاتصال بالاثنين، فلم يرد أي منهما، هذا ما كنت أتوقعه على أي حال، متى نفع زوج أو ابن؟ لذا أكتب كل شيء هنا “بالحبر الطائر”، حتى إذا حانت ساعتي؛ يحق لهما، وربما يهمهما، أن يعرفا، ولو من باب الفضول، ما حدث قبيل النهاية، أما إذا امتد عمري، فسرعان ما ستتلاشى الكلمات قبل أن يجدها أحدهما”.

سردية التفاصيل الدقيقة
تحتفي “بالحبر الطائر”  بالتفاصيل الدقيقة، وتشكل من خلالها رؤية العالم داخل الرواية، إذ تسائل الرواية التحولات الاجتماعية المرعبة التي حاولت أسلفة العقل العام، وتجلياتها في الجامعة، وبدت قادرة على تأمل العالم عبر منح مساحات صافية للسرد التحليلي، في مناقشة تحول الذوق العام في الغناء على سبيل المثال، من دون أن يفقد النص شحنته العاطفية والفكرية، أو يدخل في فخاخ النزعة المقالية، التي تقدمه بصفته مادة صحافية، وتحيلك الرواية أيضا على نمط المثقف الخرب، الذي يمثله حسام إدريس، الكاتب المدجج بالرطان اللفظي الكاذب، والفارغ تماماً من الداخل. 

تسعى الرواية بخبرة جمالية متمرسة بالسرد الى الخروج بالنسوي على أهميته في معاينة العالم من زوايا أكثر رهافة، إلى إشكاليات الوجود الإنساني، فتطرح قضايا الهوية والعولمة، وقد تلجأ الكاتبة أحياناً عبر تكنيك تعدد الرواة الحاضر في النص إلى أن تكشف الشخصية الساردة عن جوهرها مبكراً ، من قبيل ما نراه في الفصل السردي”هاللو لندن”، حيث تحكي نسمة عن نفسها قائلة:” ومن أكون أنا نسمة ضرغام”؟ سوى امرأة تجاوزت الأربعين وما زالت تعجز عن السيطرة على الطفلة التي بداخلها، ما زالت تهوى الطفولة ونزقها وألعابها، وجدت نفسها هذا المساء في قلب زحام لندن… حيث تصطحب الأمهات أطفالهن لتريهم ما يغيب عن البيوت، ما يمكن أن يحدث لهم في أيام الحياة المدهشة ولياليها. يصعب ألا أشعر بالوحشة، أو أن أتجاهل السؤال الذي لا يكف عن وخز أعماقي… “لماذا جئت إلى هنا”؟

ويتواتر ذلك الحس التحليلي والتأملي في رصد الداخل الثري للشخوص، والمعبأ بالأسئلة، والارتباكات، ففي (باريس. خريف 2019)، يبدأ المقطع هكذا: “من أنت يا نادين؟”، سؤال لا يكف عن وخز دماغي. مطربة سيئة الحظ؟ أم طفلة ساعية للاختباء؟. دقة قديمة أنا، سلطاتة الطرب الكلاسيكي، لم أجد نفسي في الألحان الشبابية السريعة والأغاني القصيرة، بل ظللت مولعة بالقديم، تعلقت به منذ طفولتي، لكن بيت أبي كان قبلياً، شقة صغيرة خانقة قمعت رغبتي في تحرير حنجرتي بالنغم، فأذعنت” ( 108).

تحيا نسمة أرقاً لا نهائياً، ونادين ابنة المزاج الكلاسيكي في الغناء تصحبها في علاقتها بشهاب حالة إخفاق، ونجوى عانت الزهايمر المبكر، ونعيمة تكتب بالحبر الطائر مرثية لجيلها، ليس هذا كل شيء في الرواية، وهو كل شيء في آن واحد، في نص بديع ومتماسك، ومعبر عن روح خلاقة تقاوم قسوة العالم عبر الكتابة، بدءا من انتخاب زمني دال لزمن الكورونا الذي تبدأ منه الرواية، حيث كل شيء على المحك، الآمال، والذكريات، والحياة نفسها.