هل يُفترض باللبنانيين اختيار الانحياز بين إسرائيل وإيران؟

هل يُفترض باللبنانيين اختيار الانحياز بين إسرائيل وإيران؟

أتابع الحرب الإسرائيليّة – الإيرانيّة وأرتعب. ليس فقط من الصواريخ ولا من الخطر النووي، بل ممّا تحمله تعليقات شعبي من مواقف حادة مؤيدة لهذا الطرف أو ذاك.

قسم من شعبي يتحمَّس لإسرائيل وقسم آخر لإيران. أستخدمُ تعبير “يتحمّس” لأن في التعليقات شحنة عاطفيّة ترافق الحجج الفكريّة. للأسف، ليس جديداً أن يتحمّس شعبي لــ”ثنائيّة” خارجيّة وينقسم حيالها، وقد سبق ان نشرت نصاً في “النهار” سنة 2017 بعنوان “ثنائيات قاتلة تلاحقنا كاللعنة” جاء في مقدمته: “مع نشأة الكيان اللبناني كان السؤال، انتداب عربي أم فرنسي؟ البارحة كان السؤال احتلال إسرائيلي أم سوري؟ اليوم أصبح السؤال هيمنة ايرانية أم سعوديّة؟ ثنائيات قاتلة تلاحقنا كاللعنة، منذ ولادتنا في هذا البلد، تحتّل عقلنا وقلبنا قبل ان تستبيح أرضنا وسماءنا. القوى المسيطرة في الداخل، يمينا ويسارا، مذاهب وعقائد، ومنذ نشأة الكيان، استتبعت نفسها لهذه الثنائيات، واختصرت خياراتنا بهذه اللعنة أو تلك، عن طريق الضغط علينا، بالمال والعنف والمؤسسات الدستورية وغير الدستورية، والضجيج الضجيج الإعلامي والأيديولوجي.”

في هذه المرحلة التاريخية، يتصرف شعبنا تلقائياً وكأنه عليه أن يختار بين إسرائيل وإيران. حتى لو لم يطلب منّا الخارج ان نختار بل ان نبقى على الحياد عسكريًّا، وذلك بموافقة جميع الأطراف المتناحرة سياسيًّا، لا نترك فرصة في لقاءاتنا أو عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، إلا ونعبِّر فيها عن تحيّزنا لهذا الفريق أو ذاك.

فنحن لا نتفرّج على هذه الحرب عن بعد، من على شاشات التلفزة، أو من خلال مراقبة الصواريخ الإيرانيّة تمر فوق رؤوسنا باتجاه إسرائيل. نحن معنيون بهذه الحرب بطرفيها وبنتائجها، فإسرائيل تحتّل أرضنا وتقصفنا كل يوم، وإيران بعقيدتها وسلاحها وأموالها وسياساتها، أصبحت جزءاً من نسيجنا الوطني. لذلك من الطبيعي ان يكون للشعب اللبناني مواقفه من الحرب بين البلدين.

أعبّر في هذا النص عن موقفي الشخصي ومن مسألة الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.

من حيث القانون الدولي، لا شك أن إسرائيل هي المعتدية، ولا يحق لها مهاجمة إيران بحجة القضاء على مفاعلها النووية وصواريخها الباليستية، خاصة انها الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية.

من حيث تضرر مصالح الشعوب والدول، لا شك أيضاً ان ايران تتعرض للوحشية الإسرائيلية بأسلحتها الفتاكة، بشكل لا يقارن على الإطلاق بما يتعرض له الشعب الاسرائيلي من اعتداءات ايرانية. وينسحب هذا الأذى، معنوياً على الأقل، على معظم افراد الطائفة الشيعية بحكم المشاعر المذهبية من جهة وارتباط حزب الله بالنظام الايراني من جهة ثانية، خاصة وان هذه الطائفة لم تخرج بعد من نكبتها إثر حرب إسرائيل على حزب الله ولبنان.

قد أتفهّم ان ينحاز اللبناني الى أحد الطرفين المتحاربين، بسبب انتمائه الطائفي أو تجربته التاريخية أو توجهاته العقائدية، لكنني أستغرب واستهجن ان يُرفِق هذا الشخص موقفه السياسي بحجج أخلاقيّة أو قيميّة أو سلوكية، ذلك أنني أجد في سياسات البلدين، تشابهاً مذهلاً على المستويات الثلاث، رغم ان إسرائيل، خاصة بعد حرب الابادة على غزة، تفوقت على جميع البلدان في مستوى الانحطاط الأخلاقي والقيمي.

فإسرائيل وإيران تحاربان باسم الله الواحد، وتبرّران حروبهما بانتظار المخلّص، المسيح اليهودي عند إسرائيل، والمهدي المنتظر عند إيران.

إسرائيل وإيران تدّعيان انهما تدافعان عن أنفسهما وتستخدمان سلاحهما للسيطرة على البلدان العربيّة وشعوبها ومن بينها لبنان.

إسرائيل وإيران يعرّفان عن أنفسهما وعن الآخرين بحسب هويتهما الدينيّة، ويغذّيان النزعات المذهبية في المنطقة.

إسرائيل وإيران يستلهمان الماضي طريقًا للحاضر والمستقبل.

إسرائيل وإيران يستعينان بمظلوميّة الماضي ليبررا ممارستهما الظلم على الآخرين في الحاضر.

إسرائيل وإيران يهجّران أناساً دفاعاً عن مقدّساتهما.

إسرائيل وإيران يقرّران عن الفلسطينيين من يمثلهم ومن لا يمثّلهم.

إسرائيل تحتلنا وإيران تستخدمنا، الأولى تقتلنا فنستشهد، والثانية تستشهدنا فنُقتل.

لا أعتقد بأن صمود إيران عسكريًّا وبقاء نظام الولي الفقيه على قيد الحياة يمكن ان يكون له تأثير إيجابي على لبنان. فهي لم تستخدم صواريخها للدفاع عنّا ولن تستخدمها في المستقبل. وعلى الارجح انها زودت حزب الله بصواريخ باليستية ليستخدمها دفاعاً عنها وليس عن لبنان. لكن شاءت الظروف أن يضعف هو عسكرياً قبل ان تتعرض هي للإعتداءات الإسرائيلية. كما أني أعتقد أن صمودها قد يزيد من تعنّت حزب الله من دون ان يسمح له بالمقابل من مواجهة إسرائيل، مما يعرقل أكثر قيام الدولة اللبنانيّة وعمليّة الإصلاح والإنقاذ… وبالتالي يصعّب مواجهة اسرائيل من خلال الوحدة الوطنية والتمسك بالحقوق.

كذلك ان تراجع نفوذ إيران وحزب الله في لبنان ربما يسمح للبنانيين بالخروج من لعبة المحاور والتوقف عن دفع ثمنها كما يحصل منذ عقود. وقد يؤدي ذلك الى الإعتماد أكثر في الموقف الوطني على اللعبة الديمقراطيّة في مقاربة واقعهم الجديد ومستقبلهم، انطلاقًا من مصالحهم المشتركة، في ظل مخاطر الهيمنة الأميركيّة-الإسرائيليّة المتصاعدة في المشرق العربي.

عندما يكون هناك شبه إجماع وطني على تحييد لبنان عسكريًّا عن الحرب الإسرائيليّة-الإيرانيّة، وعندما يكون حزب الله حتى الآن من ضمن هذا الإجماع ولو مجبراً، نكون قد خطونا خطوة مهمّة باتجاه إيجاد مقاربة وطنيّة لتفاعلنا مع أحداث المنطقة. مقاربة لا تتنكّر لواقع انه لم يعد بإمكان وطننا إلاّ ان يكون حياديًّا على المستوى العسكري، بعيدًا عن المغامرات التي أوصلته الى الانهيار على كافة المستويات، انهيارٌ لم يعد تنفع معه كل التنظيرات التي تريد القفز فوق مسلّمة الحياد، وذلك على الأقل لعقد من الزمن.