صراع غير عشوائي مع رجل راقٍ

صراع غير عشوائي مع رجل راقٍ

منال عبد الأحد

 

 

تذكر أنها في تلك الأمسية راحت تنظر إلى الناس من حولها مستغربة حماسة غير مبررة بدت في عيونهم. اعتادت أن تلتقي هؤلاء أنفسهم في الباحة عينها خلال مناسبات لم تعد تأبه بالمشاركة فيها أصلًا. مرّ وقت طويل قبل أن يتسنى لها التحديق في عيونهم، فبدا لها بريق بياضها شاحباً. فكرت أنه انعكاس الضوء الخافت فيها. رافقت في تلك الأمسية رجلًا ذا كاريزما غريبة، اعتادوا في دائرة أصدقائه وتلامذته أن يقرنوا اسمه بـ”خالف تُعرف”. حال تبدّل أفكارها كثيراً في السنوات الأخيرة دون مناقشة مواضيع حساسة معه ليكتفيا بالحديث مع قرينته، أستاذة أدب مبهورة به، عن حب لم يفتر بينهما. ما زالت تستمتع بصحبتهما من حين لآخر مع أنهما يكبرانها بأعوام ليست بقليلة.

 

في لقاءات أخرى، كان الثلاثي ينصت بشغف إلى موسيقى ثورية، على الرغم من تغيّر كبير طرأ على أهوائها الموسيقية، إلا أن  حكاياه عن “فنانين ملتزمين” عرفهم صغاراً تستحوذ على اهتمامها حتى اليوم. فيما تقلّب أفكارها هذه في ذهنها بتؤدة، أطفأ المسجل بُعيد: “القوة هي اللي بتوقع إن وقفت بوج الأفكار”، وقال لهما “نزلوا”. ارتبكت كثيراً وشعرت بأنها قد تترجل إلى حلبة صراع دون أن تعرف ما يسعى إليه صديقها أستاذ التاريخ “المشاكس”. نزلت زوجته وبقيت هي في المقعد الخلفي. ارتدت ملابس رياضية زهرية ذاك المساء على اعتبار أنهم لن يترجلوا من السيارة أصلًا وسيتفرّجون من شبابيكها. أمام حماسته وضحكة عيونه لم تجد مجالًا للجدال، خشيت من تلقائيته المعتادة في الأماكن العامة، لا شيء قد يردعه عن الصراخ أو إجبارها بتحبب على النزول من السيارة ودفعها إلى الأمام عنوة. قررت أن ترضخ بهدوء. اقتربوا لينضموا إلى الحشد فيما اعتلى شاب أنيق المنصة. حكى عن مواضيع وأطلق شعارات وجدتها نمطية على الرغم من أنها لم تركّز فيها. انصرفت إلى تأمّل مَن حولها، لتتلهّى في التحديق ببلاهة متسائلة كم من الوقت أمضت تلك السيدة في التبرّج أو عدد عمليات التجميل التي خضعت لها هذه أو حاجبي شاب مرسومين بعناية.

 

صفق الجميع فجأة، بدا غريباً أنه ما إن توقفوا حتى صفّق أستاذها وحيداً عدة مرات ثم ابتسم وتوقّف. رمقه الحاضرون بنظرات ساخطة. خشيت، صراحة، أن يُطردوا من المكان، بعد أن استُفِزّ الرجل الأنيق محط أنظار الجميع الذي نزل متوجهاً نحوه ومدّ يده لمصافحته. تراجعت أنا وزوجته إلى الخلف بعفوية ومنحناهما حيّزاً كافياً للتشاور، بعد قليل أومأ أستاذ التاريخ برأسه صعوداً أي إنه على الأرجح لم يوافق.

اتّجه نحوهما واستنتجتا أنهم سيغادرون. حين اقتربوا من السيارة طلب منهما الانتظار، اتّجه إلى المنصة بسرعة نظر في عيون الحاضرين وأومأ برأسه نزولًا دون أن ينطق بحرف. دُهش الجميع وترجّل هو مهرولاً نحو السيارة. صفّق الرجل الأنيق معتلياً المنصة من جديد وأعلن عن فوز متوقّع للائحته. فتح أستاذها باب السيارة وأوعز إليها وإلى زوجته بالصعود. أدركت حينها أنه وللمرة الأولى، بعد تعارفهما، أي منذ ما يزيد على العقدين، تخلّى عن موقفه وعن “معركة” بدا لها أساساً أعمق من أن يخوضها. جلس في مقعده وقاد السيارة بسرعة قياسية. ما كانت لتتوقع أن يتنازل عن لائه الأبدية وقد بدا واضحاً أن حظوظه مؤكدة بخرق الإجماع.

 

ساد صمت مطبق في طريق العودة، وحين وصلوا أمام منزلها، أدركت أنهم نجوا بأعجوبة. ترجلت من السيارة وهرولت إلى الداخل. اتجهت فوراً إلى غرفتها لتجلس أرضاً وتستمع مراراً إلى الأغنية نفسها التي رددوها في السيارة عندما كان هو وزوجته يتغامزان فرحَين، وفي كل مرة قيل “القوة هي اللي بتوقع إن وقفت بوج الأفكار” كانت تستبدل بغضب “بتوقع” بـ”بتركع”.  منذ تلك اللحظة، أدركت أن أستاذ التاريخ المشاكس أتعبه الدهر واستكانت لاؤه. شعرت، رغم عدم اهتمامها بطبيعة المعركة، بخذلان كبير. استسلمت لنوم عميق لما يزيد على 12 ساعة يومذاك. اتّخذت حياتها بعد تلك الأمسية منحًى آخر. صرفت انتباهها إلى عملها وتناست ما حدث.  

 

ذات يوم، كانت تتنزّه بسيارتها البيجو في شوارع مجاورة، مرت بالقرب من منزل لطالما زارته طفلة مع والدتها، تسكنه سيدة أنيقة سمعتها كثيراً تشتكي من زوجها، مريض سكري، يسرق الشوكولاته والبقلاوة. كن يضحكن كثيراً حين تحكي لهن عن افتضاح أمره مراراً. لمحت الرجل الأنيق نفسه مع شباب كثر ينزلون درجاً حجرياً وقعت أسفله عندما كانت طفلة فتأذّت ركبتاها وتورّم جبينها. كانت ربة المنزل قد عانقته بحنان كبير عند عتبة الباب ففهمت أنه، على الأرجح، ابنها تلميذ الجامعة المهاجر وقتذاك حين كانت المرأة اللطيفة تكرر قصة نجاحه على مسامعها مراراً متأمّلة بعودته. همّت لتترجل من السيارة كي تسلّم على صديقة أمها بعد زمن طويل، إلا أن انشغال السيدة بمراقبة موكب ابنها دفعها إلى التخلّي عن الفكرة. أقلعت. في تلك اللحظة، أدركت في قرارة نفسها أن الرجل الأنيق سطا أيضاً على درج هي التي وقعت عليه. تساءلت في نفسها عن لعنة لاحقتها منذ رأته للمرة الأولى. أيقنت أن خلافاً خفياً نشب بينهما فأشعرها بضياع لم تعرف أين سيودي بها. خلال شهور، أي في أوائل العام 2025، هجرت البلاد. كانت مستلقية على مقعد طائرة تقلّها إلى العاصمة البريطانية، لندن، حين داهمها النعاس. نامت قليلًا لتصل في حلمها إلى ربيع العام 2026، منتظرة دورها أمام باب السفارة اللبنانية في طابور طويل على أمل أن تضع ورقة في صندوق انتخابي كتبت عليها “لا بأحلامك”.