إلى أين تتجه الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟

د. خالد العزي
في ظل المواقف الأميركية والأوروبية غير الواضحة، أثبتت الأحداث الجارية بين روسيا وأوكرانيا أنّها حرب انتحارية بامتياز، وخاصة بعد تطور الأحداث الأخيرة التي حدثت عبر الهجومات التي أطلق عليها خيوط العنكبوت “الدرونز” بتاريخ الأول من حزيران/ يونيو الجاري والتي استهدفت أربعة مطارات روسية بشكل منظم، لتوجيه رسالة واضحة إلى الكرملين بأنّه بعد اليوم لم تعد سماء وأرض روسيا في مأمن إذا لم تحسم موسكو موقفها النهائي بالذهاب نحو إيقاف الحرب العبثية الدائرة بين الأخوة الأعداء.
صحيح أنّ الحرب الدائرة بينهما بات يُنظر إليها على أنها صراع معقد ومتعدد الأبعاد، يتجاوز فيها الخلاف الثنائي بين طرفين على كونه مجرد خلاف حدودي بين دولتين. وإنما في جوهره، يكشف هذا النزاع عن صراع أوسع بين الرغبة الروسية في استعادة نفوذها الإقليمي من جهة، ومحاولة أوكرانيا الانضمام إلى المعسكر الغربي سياسياً وعسكرياً من جهة أخرى، خاصة عبر الانفتاح على حلف الناتو والاتحاد الأوروبي.
في المقابل، لا يمكن تجاهل أنّ لروسيا مخاوف أمنية تاريخية بشأن توسع “الناتو” شرقاً، وهي مخاوف تراها موسكو مبررة نتيجة لتجارب تاريخية سابقة. ومن ناحية أخرى، لأوكرانيا كل الحق في تقرير مصيرها واختيار حلفائها وشركائها الدوليين دون أن تُفرض عليها قرارات بالقوة.
فالحرب الروسية الأوكرانية هي أكثر من مجرد صراع بين دولتين، بل تمثل نقطة تحوّل في شكل النظام العالمي والصراعات الجيوسياسية. روسيا التي تسعى إلى حماية مجال نفوذها الاستراتيجي ومنع توسع حلف “الناتو” باتجاه حدودها، وهو ما تراه تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ومن ناحية أخرى، فإنّ لأوكرانيا كامل الحق في تقرير مصيرها كدولة مستقلة، والسعي نحو التكامل مع أوروبا والغرب.
إنّ الحرب الحالية جلبت دماراً هائلاً لأوكرانيا، ومعاناة إنسانية لا توصف، وأثّرت سلباً على الاقتصاد العالمي، خصوصاً في مجالات الطاقة والأمن الغذائي. كما أنها كشفت عن فشل المنظومة الدولية في منع نشوب الحروب الكبرى، أو إيجاد حلول ديبلوماسية فعّالة في الوقت المناسب. وفي الوقت نفسه وضعت روسيا في مأزق حقيقي فهي بين سندان الحرب التي لا مفر منها، وبين مطرقة الحرب التي استنزفت قواها وقدراتها العسكرية والبشرية والمالية التي جنتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كونها الوريث الشرعي له.
أما الموقف الأميركي في فترة إدارة دونالد ترامب التي استطاعت الحصول على اتفاقية المعادن مع أوكرانيا وضمنت تحجيم قدرات روسيا العسكرية وطموحاتها القطبية، لكنها تفضل الحلول عبر التفاوض الشخصي بدل العمل الجماعي أو المؤسسات الدولية حيث بات من المرجح أنّ ترامب سيحاول عقد صفقة مباشرة مع بوتين، ربما تقضي بوقف القتال مقابل تنازلات جزئية (مثل تجميد عضوية أوكرانيا في الناتو أو الاعتراف الضمني ببعض المكاسب الروسية) وفي الوقت نفسه تستخدم الإدارة العصا ضد روسيا لإقناعها بالتفاوض الجدّي مع أوكرانيا من خلال التهديد بعقوبات اقتصادية “شخصية” أو إجراءات غير تقليدية.
ووفقاً لهذا التصور فإنّنا نرى أنّ الحل الحقيقي لا يكون بالمزيد من التصعيد أو تسليح الأطراف، بل بالحوار الجاد، والاعتراف بمصالح الجميع، دون التضحية بمبادئ السيادة والعدالة. فالسلام مطلب للشعبين الشقيقين، وهو مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، مهما طال انتظاره، لأنّ السلام العادل هو الطريق الوحيد نحو الاستقرار الدائم.
وما يزيد الطين بِلّة هو الموقف الأوروبي تجاه هذه الحرب الذي لا يزال دون المستوى المطلوب. صحيح أنّ هناك دعماً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً متواصلاً، لكن هذا الدعم غالباً ما يكون بطيئاً، متردداً، أو خاضعاً لحسابات داخلية وتوازنات اقتصادية، أكثر من كونه مبنياً على رؤية استراتيجية واضحة أو التزاماً حقيقياً بحماية الديموقراطية في أوكرانيا. أوروبا تبدو وكأنها تخشى التصعيد أكثر مما تخشى استمرار الحرب نفسها، وهذا ما يطيل أمد الصراع ويزيد من معاناة الشعب الأوكراني.
كما أنّ عدم التوازن بين تصريحات الدعم الأوروبي والقرارات الفعلية على الأرض يجعل موقف الاتحاد الأوروبي يبدو غير حاسم، ويضعف ثقته كشريك استراتيجي في الأزمات الكبرى. في المقابل، روسيا تستفيد من هذا التردد، وتُراهن على الوقت والانقسام الأوروبي.
إذن السلام لا يأتي بالقوة وحدها، ولا بالصمت والتردد. وإنما المطلوب هو موقف دولي حازم، وعمل ديبلوماسي جاد، واعتراف متبادل بمصالح كل طرف، ولكن دون التنازل عن المبادئ الأساسية مثل سيادة الدول وحماية المدنيين. وأوروبا، وإن كانت بالفعل تؤمن بقيمها، فعليها أنّ تثبت ذلك بأفعال لا بأقوال فقط، وأميركا عليها أن تقول كلمتها وليس السعي وراء الصفقات التجارية والمالية.