ثغرة “البريكة” وعزلة “جبهة البوليساريو” | النهار

ثغرة “البريكة” وعزلة “جبهة البوليساريو” | النهار

شكّل إقدام موريتانيا يوم 24 أيار /مايو  الماضي، على إغلاق ثغرة “البريكة” الواقعة في أقصى شمالها الشرقي عند المثلث الحدودي مع الجزائر والمناطق العازلة من الصحراء المغربية، خطوة لافتة عُدّت تحولاً أمنياً واستراتيجياً بالغ الأهمية، فضلاً عن كونها تحمل في طياتها رسائل متعددة الاتجاهات، وتكشف عن تغير في قواعد اللعبة على الحدود الملتهبة.

 
القرار، الذي اتخذته قيادة الأركان الموريتانية ونفذ بسرعة، تزامن مع تعزيزات عسكرية شملت نشر وحدات من الدرك والقوات الخاصة، ومنع أي شكل من أشكال الحركة في المنطقة، بما في ذلك تلك التي كانت تتم سابقاً عبر وساطات محلية أو بغطاء إنساني.

 

باتت ثغرة “البريكة” منذ سنوات أحد المسالك القليلة غير الرسمية، بل منفذاً شبه سري لعبور عناصر جبهة البوليساريو بين مخيمات تندوف في الجزائر  والمناطق التي تدّعي السيطرة عليها في المنطقة العازلة بالصحراء المغربية، لتجاوز الحصار الجغرافي، لاسيما بعد إغلاق ممر الكركرات من قِبل المغرب في عام 2020. 

 

لقد سمحت هذه الثغرة للجبهة الانفصالية بتأمين حد أدنى من التواصل الجغرافي مع عمقها الجزائري، لكنها في الوقت ذاته كانت مصدر قلق مستمر للسلطات الموريتانية، التي رأت فيها منفذاً محتملاً لعمليات تهريب، وأحياناً موضع اختراقات أمنية لا يمكن ضبطها. فالجبهة بعد تضييق الخناق عليها عقب عملية الكركرات بات عليها أن تخترق الأراضي الموريتانية عبر ثغرة “البريكة” حتى تتمكن من القيام بأي عمل عدواني ضد أراضي الصحراء المغربية.

ومع تغير المواقف الدولية إزاء نزاع الصحراء، والتي كان آخرها الموقف البريطاني الداعم لمخطط الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، بات واضحاً أن موريتانيا لم تعد ترى فائدة في الإبقاء على هذه النقطة مفتوحة على المجهول، لا سيما في ظل تنامي النفوذ المغربي في المنطقة، وتزايد الاستثمارات المشتركة بين الرباط ونواكشوط، التي تتطلب بيئة آمنة ومستقرة.

عقب إغلاق الثغرة قام وفد من جبهة البوليساريو بزيارة إلى نواكشوط، في محاولة لثني الحكومة الموريتانية عن تنفيذ القرار. لكن اللقاءات لم تسفر عن نتائج عملية، ويبدو أن السلطات الموريتانية حسمت أمرها لصالح إغلاق ممر كان يُنظر إليه داخلياً كتهديد أكثر منه مكسباً ديبلوماسياً.

 

وفسّر مراقبون هذا التحول على أنه انعكاس لتزايد التنسيق الأمني بين موريتانيا والمغرب، لا سيما في ظل وجود مشاريع مشتركة للبنية التحتية، واهتمام مغربي متزايد بالربط الطرقي واللوجستي عبر موريتانيا نحو غرب إفريقيا.

 

لم يمر القرار من دون رد فعل من الجبهة الانفصالية؛ فقد جرى تداول تسجيلات صوتية ومواقف تهدد بخيارات “ردعية” تشمل استهداف خط السكة الحديد الذي يربط مدينة الزويرات بميناء نواذيبو.

 

ولئن كانت هذه التهديدات لم تصدر بشكل رسمي، فإنها تشير إلى حجم الانزعاج في أوساط قيادة الجبهة من الإغلاق المفاجئ للثغرة، بيد أنها في الوقت ذاته تُظهر حدود قدرتها على التأثير الفعلي في الداخل الموريتاني، ذلك أن أي تحرك عدائي ضد منشآت اقتصادية موريتانية سيضع الجبهة في مواجهة مباشرة مع الرأي العام الموريتاني والدولي.

 

التحرك الموريتاني جاء أيضاً في سياق إقليمي متغير، خصوصاً بعد تراجع الحضور الروسي غير النظامي في منطقة الساحل، وخروج مجموعات “فاغنر” من مالي، ما خلق فراغاً أمنياً زاد من ضغط الجماعات المسلحة على الحدود الموريتانية. وبالتالي كان من الطبيعي أن تعزز نواكشوط موقعها كدولة ذات سيادة تبحث عن أمنها أولاً، من خلال رفضها أن تكون ساحة خلفية لأي صراع إقليمي كيفما كان نوعه.

 

 القرار الموريتاني وإن بدا أمنياً في ظاهره، يحمل دلالات سياسية كبيرة. فهو يضعف قدرة جبهة البوليساريو على المناورة، ويكرّس موقع موريتانيا كلاعب مستقل يتخذ قراراته على أساس مصلحة الدولة. وفي الوقت ذاته، يضع الجزائر أمام اختبار جديد، لا سيما وأن هذا الإغلاق يُنظر إليه على أنه أولى الخطوات الفعلية لعزل جبهة البوليساريو عن المنافذ الحيوية في جنوبها الغربي.

 

في ظل هذه التطورات، تعيش جبهة البوليساريو لحظة دقيقة من تاريخها، حيث تتقلص خياراتها الميدانية والديبلوماسية على حد سواء، بينما تتوسع دائرة الدول التي تتبنى مواقف مؤيدة لمقترح الحكم الذاتي المغربي، ما يجعل رهان الجبهة على دعم إقليمي غير مضمون، ويطرح سؤالاً جدياً بشأن مستقبلها في ظل تحولات موازين القوى على الأرض وفي المحافل الدولية.