عندما يتحول الهواء إلى خطر: خفايا التلوث الجزيئي المحيط بمطار بيروت

تعيش سُكينة، وهي مواطنة لبنانية تقطن قرب مطار بيروت، تحت وقع الضجيج المستمر للطائرات، من الإقلاع حتى الهبوط. غير أن معاناتها لا تقتصر على التلوث السمعي، فهناك خطر صحي جديد يهددها ومن يسكنون في محيط المطار، وهو جسيمات دقيقة جدًا تنبعث من عوادم الطائرات.
في دراسة علمية حديثة أُجريت في سويسرا، تم فحص محركات طائرات تجارية واكتشاف جسيمات دقيقة غير مسبوقة في عادم الطائرات، ذات بنية “طبقية” تشبه طبقات البصل. وأكدت نجاة عون صليبا، أستاذة الكيمياء التحليلية وكيمياء الغلاف الجوي والنائبة في البرلمان اللبناني، أن هذه الجزيئات ناتجة من احتراق زيوت الطائرات النفاثة، وتختلف عن جزيئات الهواء الضارة التي كان يُعرفها سابقًا.
وقالت صليبا إن الجزيئات التي اعتدنا الحديث عنها سابقًا هي ذات حجم 2.5 ميكرومتر، تُعرف بجزيئات PM2.5، وهي قادرة على اختراق الجهاز التنفسي والوصول إلى عمق الرئتين. لكن هذه الجزيئات الجديدة أصغر بكثير، ما يمنحها القدرة على التغلغل العميق في الجسم، حتى اختراق جدران الأوعية الدموية والدخول إلى مجرى الدم مباشرة.
وأضافت: “هذا هو مكمن الخطر الحقيقي، إذ لا تهدد هذه الجزيئات الدقيقة الجهاز التنفسي فحسب، بل قد تتسبب بأضرار للأوعية الدموية الدقيقة، ما يرفع من خطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين. لذا، يولي الباحثون اهتمامًا بالغًا بنوعية الجزيئات التي تدخل مجرى الدم، لأن حجم الجزيئات الأصغر يعني خطورة أكبر على صحة الإنسان”.
وأوضحت أن مكونات هذه الجزيئات تتكون بشكل أساسي من مواد عضوية مثل الكربون الناتج من احتراق وقود الطائرات، بالإضافة إلى معادن ثقيلة مثل الكبريت، والتي تُضاف إلى الوقود لتحسين احتراقه وكفاءته. وأكدت أن الجزيئات التي يزيد قطرها عن 10 ميكرومتر يمكن رؤيتها بالعين المجردة، أما جزيئات PM2.5 فهي أصغر وأدق، ولا تُرى، أما الجزيئات النانوية التي تحدثت عنها فهي أصغر بكثير ولا يمكن رؤيتها إطلاقًا.
وأشارت إلى أن الانبعاثات تتصاعد بشدة في مرحلتي الإقلاع والهبوط، إذ تحترق كميات هائلة من الوقود لتوليد قوة الدفع خلال الإقلاع، فيما تعمل المحركات بأقصى طاقتها خلال الهبوط لضبط السرعة، ما يؤدي إلى كثافة الانبعاثات. كما تولد احتكاكات عجلات الطائرة بمدرج الهبوط جسيمات إضافية ناتجة من تآكل الإطارات.
وأضافت: “هذا هو مكمن الخطر الحقيقي، إذ لا تهدد هذه الجزيئات الدقيقة الجهاز التنفسي فحسب، بل قد تتسبب بأضرار للأوعية الدموية الدقيقة، ما يرفع من خطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين”. لذا، يولي الباحثون اهتمامًا بالغًا لنوعية الجزيئات التي تدخل مجرى الدم، لأن حجم الجزيئات الأصغر يعني خطورة أكبر على صحة الإنسان
وأوضحت أن سكان محيط مطار بيروت يتعرضون يوميًا لكميات كبيرة من هذه الجزيئات، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بأمراض تنفسية مثل نوبات الربو، والشعور المستمر بضيق في التنفس، إلى جانب ارتفاع مخاطر أمراض القلب والشرايين. ومع استمرار التعرض لهذه الملوثات، تزداد احتمالية الإصابة بأمراض سرطانية على المدى الطويل.
كذلك نبهت إلى أن مشاكل بيئية إضافية تُفاقم الوضع في محيط المطار، بينها نهر الغدير الذي يصب مياهه الملوثة في المنطقة، ما يؤدي إلى روائح كريهة وتلوث بيئي مزمن، إلى جانب مكبات النفايات العشوائية التي تُلقى في مجرى النهر وتتحلل مسببة انبعاث روائح قوية تؤثر على جودة الهواء. وذكرت بأن هناك مزارع مجاورة لا تلتزم المعايير البيئية المطلوبة، فتنبعث منها روائح تخمير مزعجة تساهم في زيادة التلوث.
وعن الحلول، قالت إن الإجراءات الوقائية المتاحة للمقيمين مثل إغلاق النوافذ واستخدام فلاتر الهواء قد تساعد في تقليل التعرض للجزيئات الضارة، لكنها تعتبرها حلولًا موقتة وغير كافية. وأضافت مستنكرة: “تخيلوا أن نطلب من الناس ألّا يفتحوا نوافذهم ببساطة لأن الهواء ملوث! هذا أمر غير طبيعي، ويؤثر بشكل مباشر على جودة حياتهم اليومية”.
وأكدت أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، خصوصاً مع استمرار حركة الطائرات التي تكاد أن تكون شبه دائمة طوال ساعات النهار، ما يحول محيط مطار بيروت إلى منطقة تلوث شبه مستمرة تؤثر على حياة السكان بشكل يومي.
ولفتت أخيراً الى أن الخطر البيئي في هذه المنطقة بات يشكل تهديدًا مباشرًا لصحة الفئات الضعيفة، ولاسيما منها الأطفال حديثي الولادة وكبار السن، الذين لا يملكون قدرة كافية على مقاومة تلوث الهواء. وشددت على ضرورة أن تعيد السلطات النظر في موقع مطار بيروت، وتدرس إمكان بنائه في مناطق بعيدة عن التجمعات السكنية، كما تفعل الدول التي تولي اهتمامًا بالغًا للصحة العامة والبيئة.