أَلَا يوجَد مَن يناهض هذا الخوف المهيمن عليه وعلى من حوله؟

الاب ايلي قنبر
1.”ألف مرّة جبان ولا مرّة الله يرحمه”
في العيش اليَوميّ، وأمام الأهوال أو الأخطار المُحدِقة بنا، نجد مَن يُواجه أو مَن يتهرّب. وعندما تحين الشهادة للحقيقة ولَو وصلَ الأمر بنا حدَّ الاستشهاد، نجد مَن يذهب إلى النهاية، وهناك مَن يقول في نفسه وعلَنًا حتّى: “ألْف مرّة جبان ولا مرّة الله يرحمه”. يقول لك الناس: الخوف من الموت أو من الأقوى له تبريره. وهناك مَن يرى أنّ الموت قائم لا محالة في حياة المرء، فأهلًا به حين يصِل، أو “كِش برَّا وبعيد”، وأمام الأقوى “الهريبة تلتَين المراجل…”.
لا بُدّ لنا مَن التساؤل: للخوف ما يُبرِّره؟ ما هي مصادره ؟ هل يمكن تخطّيه أو التغلُّب عليه؟…
في الواقع، أساس خوفنا في لبنان والشرق العربيّ وفي كلّ منطقة أُخرى يسودها الفقر والتخلُّف والتوتُّر يعود خصوصاً إلى الاستعمار شبه الدائم. ويرى كُثُرٌ أنّ الأمر “فالج، لا تعالج” و”العَين لا تُقاوم المخرَز”. على أنّ الاستسلام بأشكاله المتعدِّدة يتقدَّم على موقف المُقاوَمة الطبيعيّ والبديهيّ، والتِلقائيّ مبدئيّاً. وفي هذا يستَوي، في مواجَهة الأقوى، كلٌّ من العامِّيّ ومَن هو في السلطة حتّى. وتكمن المشكلة في ما نشأنا عليه وما رسخ في اللَّاوعي الجماعيّ من عدَم القدرة على الوقوف في وجه الاستبداد العاصف والمُزمِن. الإيديُولوجيَا، وخصوصاً الدِّينيّة، نحتَتنا وجعلتنا نرضخ ونَقبل الذلّ والصفع صاغرين مُستسلِمين أبداً.
2.”فَحَدثَ بَغتَةً صَوتٌ مِنَ ٱلسَّماءِ كَصَوتِ ريحٍ شَديدَةٍ تَعصِفُ”
في الأحد الأخير، تذكَّرَت الكنائس كافّة العَنصرة كحدَثٍ مفصليّ في حياة حفنة من الخائفين الجبناء الذين تواروا مُختبِئين “خَوفاً من اليهود” (يوحنّا 8 و 9). وكانوا قبلاً قد تبعثَروا لأنّ ضُرِب الراعي، فتبدَّدت الخراف (زكريّا 12: 7). لكن في لحظة وَعي داخليّ (حلول الروح القدس بلُغةٍ كنسيّة) نضجَت ظروفها، صاروا أشدّاء بعد سماعهم “صوتاً مِنَ ٱلسَّماءِ كَصَوتِ ريحٍ شَديدَةٍ عصَفت، وَمَلَأَت كُلَّ ٱلبَيتِ ٱلَّذي كانوا جالِسينَ فيهِ” (بيت الذات وبُيوت ذوات الأُخرَيات والآخَرين). فقاموا لِوَقتهم “كُلُّهُم مَعًا”، “وَطَفِقوا يَتَكَلَّمونَ بِلُغاتٍ أُخرى كَما آتاهُمُ ٱلرّوحُ أَن يَنطِقوا”. لقد انطلقوا أحراراً في عالمٍ يضجّ بالعبوديّة والخضوع والذلّ. أعلَوا صَوتهم ورأت الناس أعمالهم، وشهدت لهم الحياة المُشترَكة (أعمال الرسُل 2: 44 و 4: 32). وهكذا “أذاعَت أَلسَّمواتُ مَجدَ ٱلله، وَٱلفَلَكُ أَخبِرَ بِأَعمالِ يَدَيه” و”في كُلِّ ٱلأَرضِ ذاعَ مَنطِقُهُم، وَإِلى أَقاصي ٱلمَسكونَةِ كَلامُهُم”. وصار العالم “يسمَعُهُم يَنطِقونَ بِأَلسِنَتِه بِعَظائِمِ ٱلله”.
تلك الجماعات الأولى أرسَت ركائز تأسيسيّة للمُستقبَل: حرِّيَّة أولاد الله (روما 8: 21؛غلاطية 5: 13). القرار الجَماعيّ (“رأى الروح القدس ونحن”- أعمال 15: 28)، “وكان كلُّ شيءٍ مشترَكاً بينهم” – أعمال 2: 44 و4: 32). مُعادَلة “الثلاث تاءات” في خطّ البدايات أرساها مطران واحد وحيد هو غريغوار حدّاد أثناء رعايته لأبرشيّة بيروت وجبيل للروم الملكيِّين الكاثوليك بين 1968 و1975: تفكير وتقرير وتنفيذ معاً. اين كنائسنا من تلك الركائز التأسيسيّة؟
على مستوى القاعدة أو على مستوى السلطة نفتقد ليس الى تلك الركائز وحسب، بل الى قيادة مجمعيّة رُؤيويّة ومُبادِرة، تُقدِم حيث لا يجرؤ الأخَرون، تكون “حذِرة لنَفسها وَلِجَميعِ ٱلقَطيعِ ٱلَّذي أَقامَها فيهِ ٱلرّوحُ ٱلقُدُسُ أَساقِفَةً، لِيَرعَوا كَنيسَةَ ٱللهِ ٱلَّتي ٱقتَناها بِدَمِهِ ٱلخاصّ” (أعمال الرسل 36-28.18-16:20). لقد بذل يسوع نفسه ولمّا يزَل “من أجل كثيرين” أمس واليوم وغداً. أمّا نحن معشر المسيحيِّين فماذا نعمل لأجل أنفسنا وبعضنا البعض، ولأجل “كثيرين” من البشر يُحبّهم يسوع “إلى الغاية”؟
في تقريره إلى الاب، قال يسوع “حينَ كُنتُ مَعَهُم في ٱلعالَمِ، كُنتُ أَحفَظُهُم بِٱسمِكَ”؛ “يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد”. لقد كانت “أَعمالُه كُلُّها صِدقٌ وَطُرُقُه ٱستِقامَة”.
أمّا نحن فماذا يُمكننا قَوله للآب؟
هل عملنا على حِفظ كنيسته في مَوطنها، فلا تُقتلَع من جذورها؟
هل متَّنا العلائق بين أعضائها أَم شرذمناهم فصاروا “قسماً لبولس وآخَر لِأَبلُّيس وثالث لِكيفا؟.”
هل عملنا على أن تعرف الشعوب الربّ وأن تَطبع “سيوفها سِككاً ورِماحها مناجل. فلا ترفع أُمّةٌ على أُمّةٍ سيفاً ولا يتعلّمون الحرب في ما بعد”؟
هل عالجنا اللامبالاة الفاقعة لكثيرين من البشر، فنُقلِع عن سلوك ما ترجمه الأخَوان رحباني كالتالي:”خِربِت، عُمرِت، حايد عن ضهري بسيطه”.
لقد قال مورينو: “في البدء كان الوجود. ولا وجود بدون كائنات… في البدء كان الفعل. ولكنّ الفعل لا يمكن ان يتمّ من دون فاعل، من دون أنت يلتقي به. في البدء كان اللِّقاء، فأنت بِجانبي…”. وهذا ما عناه يسوع بقَوله: “مَنَ آمن بي فَكَما قالَ ٱلكِتاب: سَتَجري مِن جَوفِهِ أَنهارُ ماءٍ حَيّ “إِنَّما قالَ هَذا عَنِ ٱلرّوحِ ٱلَّذي كانَ ٱلمُؤمِنونَ بِهِ مُزمِعينَ أَن يَقبَلوه”.
كلٌّ منّا مسؤول(ة) عن الآخَر(ى). هذا ما يدفع عنّا الخوف فينا ومن حَولنا، فنَنعم بالسلام و”الحياة بوَفرة للجميع” (يوحنّا 10: 10).