تغيير في استراتيجية ‘حزب الله’ العسكرية: هل سيستبدل الصواريخ الثقيلة بالطائرات المسيرة؟

تتزايد الترجيحات في إسرائيل بأن يكون “حزب الله” اللبناني بصدد إجراء تحوّل كبير على صعيد استراتيجيته العسكرية التي أعدّها وانتهجها طوال السنوات الماضية، وذلك استناداً إلى نتائج الحرب الأخيرة بين الجانبين، وعجز ترسانته الصاروخية الضخمة على تلبية الغرض المأمول منها لأسباب متعددة، تبدأ بالخروقات الأمنية ولا تنتهي عند صعوبة استخدامها لوجستياً.
وتحدّثت “يديعوت أحرونوت”، الإثنين، عن توجّه لدى “حزب الله” نحو تخصيص الجانب الأكبر من ميزانيته لإنتاج المسيّرات، عوضاً عن الاستثمار بشكل كبير في الصواريخ. وفي تقريرها، ربطت الصحيفة العبرية العملية العسكرية التي نفّذها الجيش الإسرائيلي في الخامس من حزيران/ يونيو، ضد ما قال إنها “بنية تحتية تُستخدم لصناعة المسيّرات” في الضاحية الجنوبية لبيروت، بـ”محاولة لتعطيل الحزب عن المضي في هذا المسار”.
دمار ناجم عن الاستهداف الإسرائيلي لمبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت في 6 حزيران 2025. (ا ف ب)
اغتيالات وهجمات وملاحقة
وبصرف النظر عن مدى دقّة هذا الاستهداف، والتبريرات التي تقدّمها إسرائيل لأكثر من ثلاثة آلاف خرق لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان منذ التوقيع عليه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 برعاية دولية، فإنّ هذه ليست المرّة الأولى التي يستهدف فيها الإسرائيليون منشآت لصناعة مسيّرات “حزب الله”، أو مخازن تابعة لـ”الوحدة 127” المسؤولة عن صناعة وتشغيل المسيّرات، أو حتى قيادات هذه الوحدة المعروفة محلياً باسم “القوة الجوية”.
ففي 3 كانون الأول/ديسمبر 2013، اغتيل مؤسس الوحدة حسان اللقيس من قبل مسلحين مجهولين، يُعتقد أنهم من الموساد الإسرائيلي، في موقف السيارات أسفل منزله.
ويمكن القول إنّ الانزال الجوي الذي نفّذته وحدة “شلداغ” في الجيش الإسرائيلي في مدينة مصياف السورية في 8 أيلول/سبتمبر 2024، واستهدف منشأة عسكرية تحت الأرض مخصصة للصناعات العسكرية، وهو مشروع مشترك بين الجيش السوري السابق والحرس الثوري و”حزب الله”، كان أحد أبرز العمليات التي استهدفت مصانع المسيّرات. وصحيح أنّ إسرائيل، التي استغرقت نحو أربعة أشهر للكشف عن الهجوم، قالت إنّ الموقع الذي دمّرته كان مخصّصاً “لإنتاج الصواريخ الدقيقة”، إلا أنّ المعلومات التي حصلت عليها “النهار” تفيد بأنّ جزءاً من المنشأة كان مخصصاً لصناعة أجزاء تُستخدم في تشغيل المسيّرات.
بعد هذا بأيام، بدأ التصعيد العسكري الإسرائيلي في لبنان مع تفجير أجهزة النداء الخاصة بـ”حزب الله” في 17 و18 أيلول، وفي 26 أيلول تمّ اغتيال مسؤول “الوحدة 127” محمد سرور باستهداف شقّة في الضاحية الجنوبية لبيروت. وخلال المدة الفاصلة بين الحدثين، شنّ الجيش الإسرائيلي هجمات مكثّفة طالت عدداً كبيراً من مستودعات للمسيّرات ولصواريخ “كروز”، خاصة في جنوب لبنان وسوريا، للحدّ من قدرات الوحدة الجوية التابعة للتنظيم في الأسابيع التي تلت ذلك.
هذا كلّه لم يوقف عمل الوحدة خلال الحرب، بل استمرّت بإطلاق المسيّرات حتى اليوم الأخير للقتال، حتى أنّها تمكّنت من مهاجمة منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قيسارية في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بواسطة طائرة “صياد 107”. وجاء ذلك بعد أيام من هجوم استهدف قاعة الطعام في قاعدة للواء غولاني جنوب حيفا، بواسطة مسيّرة من النوع نفسه، ما أدى لمقتل 4 جنود وإصابة 58.
ولدى انتهاء المواجهات المباشرة، انتقلت إسرائيل مجدداً إلى الحرب الاستخباراتية والأمنية مع “حزب الله”، بالتعاون مع أجهزة خارجية. ففي بداية شباط/فبراير 2025، تم الكشف عن شبكة تابعة للحزب في شمال ألمانيا ممتدة داخل المساجد والمراكز الثقافية وجماعات الشباب، مهمتها توفير قاعدة أوروبية لجمع الأموال والحصول على معدات الأسلحة، وخاصة تلك المتعلقة بالمسيّرات.
وفي 1 نيسان/أبريل، اعتقلت إسبانيا نشطاء في فصيل تابع لـ”حزب الله” كان يعمل على توفير قطع غيار لتجميع الطائرات المسيرة.
بين القناعة العسكرية والاعتبارات النفسية
ما سبق كان مؤشراً على إيلاء تل أبيب أهمية كبيرة لفاعلية هذا السلاح في أي مواجهة أو حرب، وهذا ما يعيدنا إلى الحاضر، والحديث عن تخلّي “حزب الله” عن استراتيجيته القائمة على الصواريخ الدقيقة، التي لطالما هدّد بها إسرائيل واعتبرها أساس الردع، لصالح أسطول من المسيّرات الصغيرة.
في هذا السياق، تقول مصادر مطّلعة على ما يجري في كواليس “حزب الله”، لـ”النهار”، إنّ “ما نُشر ليس دقيقاً، إذ لا يوجد حتى الآن أي قرار بالتخلي عن ترسانة الصواريخ الثقيلة والدقيقة”، موضحة أنّ هذا الأمر “منوط بالمفاوضات القائمة مع الرئيس اللبناني جوزف عون، وأن الحزب وضع مجموعة من المعايير قبل البحث بهذا الأمر، وهي الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمسة التي يحتلّها في جنوب لبنان، ووقف الانتهاكات والاعتداءات، وتسليم الأسرى، قبل البحث بهذا الطرح”.
لكنّ المصادر تؤكّد في الوقت نفسه وجود “قناعة لدى الجناح العسكري في حزب الله بأنّ هذه الصواريخ لم تكن مؤثرة خلال الحرب الأخيرة، وفي معظم الحالات لم تُستخدم لغياب غطاء جوي قادر على تأمين الحماية لها أثناء التحضير لإطلاقها، وبالتالي فإنّها باتت عبئاً، إلا أنّ تمسّكه بها يعود إلى أسباب مرتبطة بالأثر النفسي الذي يمكن أن يتركه مشهد تسليم هذه الصواريخ على البيئة الحاضنة للحزب، وما يترتب على ذلك من تبعات تتعلّق بجماهيريته”.
شاحنة تحمل صواريخ في منشأة
لماذا المسيّرات؟
أما بما يخصّ المسيّرات، فتؤكّد المصادر أنّ “حزب الله اتخذ قراراً بالفعل على الاعتماد بشكل مكثّف عليها لعوامل عدّة”، أهمّها سهولة الحصول على القطع اللازمة في صناعة هذا النوع من الطائرات نظراً لاستخدامها أيضاً في الصناعات غير العسكرية، ويمكن حتى أن “تُطلب أونلاين” من دول مختلفة.
كما أنها لا تحتاج إلى معامل ضخمة كالتي كانت تستخدم في صناعة الصواريخ وتعديلها، فهي أبسط وأسهل من حيث التصنيع أو التجميع. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أنظمة الدفاع الجوي تجد صعوبة في تحديد المسيّرات واكتشافها وتصنيفها تهديداً على الفور، مقارنةً بالصواريخ، فمسار الطائرات ليس موحّداً أو سهل التنبؤ به.
وعليه، تقول المصادر إنّ “حزب الله لم يُخرج بعد صواريخه من المعادلة، إنّما حوّل نقطة التركيز في استراتيجيته المستقبلية على المسيّرات، إضافة إلى تطوير قدراته في الحرب الإلكترونية”.
ومن خلال هذه المعطيات يبدو أنّ الحزب اللبناني يجري تقييماً فعلياً لأدائه ونتائج حربه الأخيرة، بهدف إعادة استعادة قوّته وبناء عقيدة استراتيجية عسكرية جديدة ملائمة لما واجهه أو يمكن أن يواجهه لاحقاً. واستخلاص العبر لا يتوقّف عند حدود تجربته الخاصة، إنّما هو يستلهم من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، التي اعتمد فيها الجانبان على الطائرات المسيرة التي تسببت بأضرار كبيرة، أبرزها عملية “شبكة العنكبوت” التي نفذتها كييف.
لكن هل ستقف إسرائيل مكتوفة أمام هذا المشهد؟
تقول “يديعوت أحرونوت” إنّ الجيش الإسرائيلي عمل مؤخراً على تحسين قدراته بشكل كبير لاكتشاف واعتراض المسيّرات، وذلك من خلال نظام الليزر الجديد الذي أسهم بالفعل في إسقاط نحو 40 طائرة مسيّرة لـ”حزب الله”، خلال الحرب الأخيرة، إلا أن ذلك لا يعني أنّ هذا النظام يمكنه أن يتعامل مع أسراب كبيرة من المسيّرات التي قد تطلق بالتزامن مع وابل كبير من الصواريخ، لا سيّما من مسافات قصيرة وصعبة مثل لبنان. وعليه من المرجّح أن تجنّد إسرائيل كلّ قدراتها لمنع الحزب من تحقيق مآربه، ولو اضطرها الأمر ربّما إلى حرب جديدة.