الصفقة غير المستقرة: كيف تحولت الحرب التجارية إلى “تسوية مشروطة” بين الصين وأمريكا؟

من قلب لندن، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوصّل إلى إطار “لتنفيذ توافق جنيف” بعد جولة مفاوضات طويلة مع الوفد الصيني، استمرت أكثر من 20 ساعة. وبدت لغة ترامب ووزير التجارة هاورد لَتنيك انتصارية، لكن التفاصيل التي أعقبت الخطاب كشفت عن صورة أكثر هشاشة وتناقضاً.
في صلب الاتفاق: تعهد صيني بتسريع تصدير المعادن الأرضية النادرة، وهي عناصر حيوية لصناعات أميركية حساسة تشمل الرقائق الإلكترونية، السيارات الكهربائية، والهواتف الذكية. في المقابل، وافقت الولايات المتحدة على تخفيف بعض ضوابط التصدير، والتراجع عن رسوم جمركية شاملة بنسبة 145% لتصبح 55%.
معادن نادرة… وقلق متجدد
تُنتج الصين 60% من المعادن الأرضية النادرة وتُعالج نحو 90% منها عالمياً، ما يمنحها قوة تفاوضية استثنائية. وقد أعربت واشنطن منذ سنوات عن قلقها من هذه الهيمنة، وبلغت الذروة في شباط/فبراير 2024 حين قالت وزيرة الطاقة الأميركية السابقة جنيفر غرانهولم إن الاعتماد على الصين “مثير للقلق الشديد”.
ترامب رفع التعرفة الجمركية في ولايته الثانية إلى مستويات قياسية، وفرض ضوابط على صادرات الرقائق. وردّت بكين في نيسان/أبريل بتقييد صادرات المعادن. الصفقة الحالية تُعد تراجعاً تكتيكياً من الطرفين، لا تسوية حقيقية. اتفاقية المعادن النادرة الصينية مقابل التكنولوجيا الأميركية.
الطلاب قبل الرقائق… ومكاسب رمزية
ضمن الاتفاق، تراجعت الولايات المتحدة عن فرض قيود على تأشيرات الطلاب الصينيين. كان هذا البند مفاجئاً لأن التعليم لم يكن على طاولة النزاع سابقاً، وهو ما يعكس محاولة من واشنطن لبناء جسور ثقة رمزية.
السماح للطلاب الصينيين بالاستمرار في الدراسة بالجامعات الأميركية — بند لم يكن مثيراً للجدل حتى أثاره ترامب مؤخراً، ما وضع آلاف الطلبة والجامعات في حالة من القلق.
صورة تعبيرية (وكالات)
الأسواق تهلل… بحذر
الأسواق العالمية استجابت بإيجابية:
• نيكاي الياباني +0.6%
• هانغ سنغ في هونغ كونغ +0.8%
• شنغهاي +0.5%
• فوتسي البريطاني +0.1%
• الذهب يتقلب
لكن الأسواق الأميركية بدت أكثر تحفظاً:
• S&P 500 تراجع 0.3%
• ناسداك -0.5%
• داو جونز بقي ثابتًا تقريبًاً
ويرجع هذا التباين إلى صدور بيانات تضخم أضعف من المتوقع (+0.1%)، ما يعكس تباطؤاً في الإنفاق الاستهلاكي بسبب الغموض التجاري. كما أن الحذر والخوف من الاجتماع الأميركي الإيراني المقبل يلقي بظلاله. إضافةّ إلى تهديدات الرئيس الأميركي بوضع تعريفات جمركية أحادية الجانب على الدول التي لم تصل إلى اتفاق تجاري بعد خلال أسبوعين.
بين الوعود والحقائق
الاتفاق المعلن في لندن ليس تتويجاً لمسار تفاوضي، بل افتتاحية لمسرح جديد في العلاقات التجارية الدولية. فالتنازلات المتبادلة، رغم طابعها الرمزي، تُخفي معارك أعمق تدور خلف الكواليس: صراع على النفوذ التكنولوجي، وسباق على الموارد الاستراتيجية، ومخاوف أميركية متجذّرة من صعود اقتصادي لا يمكن كبحه بالتعريفات وحدها.
ومع بقاء النقاط الخلافية الكبرى دون حل — من أزمة الفائض التجاري الصيني، إلى المخاوف الأمنية المتعلقة بالرقائق والمعدّات الحيوية — تبدو “تفاهمات جنيف” أقرب إلى وقف إطلاق تعريفات جمركية مشروط، منها إلى سلام اقتصادي حقيقي.
المستقبل؟ لا تكتبه الاتفاقات الورقية، بل أرقام الميزان التجاري، وحركة الحاويات، وسرعة تحوّل الوعود إلى واقع ملموس. حتى ذلك الحين، تبقى الأسواق في حالة ترقّب… ويبدو أن الأيام المقبلة ستكون الأكثر حسماً منذ اندلاع شرارة الحرب التجارية الأولى.