مطاردة المدخنين في الشوارع | صحيفة النهار

مطاردة المدخنين في الشوارع | صحيفة النهار

31 أيار/مايو يوم عالمي للامتناع عن التدخين أعلنته منظمة الصحة العالمية.
يتجه العالم إلى التخلص من التبغ بعدما أصبحت كلفة الفاتورة الصحية الناتجة من تعاطيه تفوق حجم مساهمته في الاقتصادات الوطنية، إذ بلغت نحو 1,4 تريليون دولار عام 2023. تعمل دول كثيرة حول العالم، ومنها بعض العربية، على شيطنة التدخين، وذهبت إلى حد اعتبار المدخنين خارجين على القانون إذا تعاطوا السجائر في الأماكن المحظورة فيها، وهي باتت تقريباً تشمل كل الأماكن المأهولة، حتى المنازل الخاصة. المكان الوحيد المسموح بالتدخين فيه هو الفضاء الخارجي، وهناك استعدادات لمنعه حتى في الحدائق العامة والمتنزهات.
إجراءات المنع ورفع الضرائب باطّرد على منتجات التبغ تهدف في النهاية إلى وقف إنتاجه وتحويل الأراضي الزراعية التي يشغلها نحو زراعات بديلة صحية، حتى لو أدى ذلك إلى إقفال مصانع كبرى وتاريخية وغياب أسماء ماركات شكلت جزءاً من التراث الوطني لبلدان الإنتاج مثل “فيليب موريس” و”مارلبورو” و”كنت” و”ونستون” الأميركية و”جيتان” و”غولواز” الفرنسيتين و”دافيدوف” الألمانية و”روثمان” الإنكليزية وغيرها مئات الماركات في كل أنحاء العالم. 

 
أتى المستعمرون الأوروبيون بنبتة التبغ من القارة الجديدة التي سموها أميركا. كان سكان أميركا الأصليون يستخدمون نبتة التبغ لفوائدها العلاجية، إذ كانت تستخدم لتسكين الألم لاحتوائها على مادة النيكوتين المخدرة، وسميت النبتة بالأصل نيكوتينا، ومن أوروبا انتقلت إلى أنحاء العالم بعدما تم التفنن في استخدامها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه بعد إضافة الكثير من النكهات والمواد الكيماوية وكذلك طرق التدخين عبر لف التبغ بالورق أو بالغليون أو لف أوراق التبغ على شكل سيكار أو فرمها للاستخدام في النرجيلة، أو على شكل معجون للمضغ…
صرفت شركات تصنيع التبغ مليارات الدولارات على الدعاية لمنتجاتها، ومليارات زائدة لإقناع النساء بالتدخين منتجة لهن أصنافاً خاصة بهن. ربطت الشركات تدخين النساء بحركة تحرر المرأة بعدما كان التدخين فعلاً ذكورياً وعاراً على النساء. صورت المدخنات الأولات كبطلات وتصدرن صورهن أغلفة المجلات. فرضت شركات التبغ سلطتها على وسائل الإعلام عبر سخائها الإعلاني وممارسة ضغوط هائلة لمنع التعرض لمنتجاتها. 
ارتبط التدخين في القرن العشرين بالرجولة والاستقلالية والثورة والتحرر، كان الموضة السائدة، من لا يدخن كان غير طبيعي، علبة “المارلبورو” كانت رمز الفروسية والقوة، وعلبة “الكنت” رمز الأنوثة. توئمت السيكارة مع فنجان القهوة والسهر والفرح والاحتفال. كان ذلك قبل أن يبدأ الطب يكتشف أخطار التدخين على الصحة وتسببه بأمراض القلب والسرطان خصوصاً.
يحتل العرب مواقع متقدمة في قائمة أكثر الشعوب تدخيناً في العالم، الأردن وسوريا والعراق واليمن ولبنان في الطليعة، وفضلاً عن السجائر ينتشر في هذه البلدان وفي مصر أيضاً تدخين النرجيلة التي تفوق أضرارها أضرار السجائر لما يحتويه تبغها من إضافات لا يزال كثير من المدخنين يجهلون ماهيتها.
لا يعرف متعة التدخين إلا المدخنون، وفي مفارقة لافتة، هم أكثر الناس دراية بأخطارها، لكن إدمان هذه المتعة الناتجة من مخدر بسيط لا يستطيع المدمنون على التدخين التخلص منه، ليس سهلاً أبداً ذلك، وما كل البدائل من سجائر إلكترونية وسجائر خفيفة إلا مجرد تحايل وأدوات تسويق التفافية. 


اليوم الذي سيجد فيه المدخنون أنفسهم مطاردين في الشوارع، بعدما طردوا من الأماكن العامة والمكاتب والمنازل، آت وقريب، بعدما زرع كثير من الدول أجهزة تجسس وإنذار، حتى داخل البيوت تطلق صفيرها عند ملاحظتها دخان السجائر. أما في العالم الثالث ودول الفقر فسيبقى التدخين تسلية وملجأً ما دامت لا تملك شعوب هذه الدول من ترف الحياة إلا السيجارة، وهي غالباً ذات نوعية رديئة.
مثلما قضت التكنولوجيا الحديثة على صناعات كانت مزدهرة كالتصوير، وفي طريقها إلى القضاء على صناعات كثيرة ضخمة تتعلق بالمحركات والطاقة والأسلحة التقليدية، سيحل اليوم الذي تتوقف فيه مصانع التبغ وتتوقف زراعة شتلاته التي لن تعود أبداً “مقدسة”.