هل يطيح ترامب بباول؟.. معركة الاستقلال النقدي في مواجهة الطموح السياسي

هل يطيح ترامب بباول؟.. معركة الاستقلال النقدي في مواجهة الطموح السياسي

في خطوة تعيد للأذهان أزمات الثقة بين السياسة والنقد، عاد دونالد ترامب، الرئيس الأميركي، إلى مهاجمة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، مُعلناً صراحةً بأن إقالته «لا يُمكن أن تتم بالسرعة الكافية».
من الناحية القانونية، يتمتّع رئيس الفيدرالي الأميركي بحصانة نسبية ضد الإقالة التعسفية، إذ ينص القانون على أنّه لا يمكن عزله إلا «لأسباب وجيهة»، وهو ما أكّده باول نفسه في تصريحات نادرة عام 2024، حين قال «لا يمكن إقالتنا إلا بسبب، ونحن محميون بموجب القانون».

لكن سابقة ترامب في إقالة رؤساء هيئات اتحادية مستقلة سابقاً، تُثير المخاوف من احتمال استنساخ السيناريو نفسه مع الفيدرالي، خصوصاً في حال تغيّر التوازن داخل الكونغرس، أو أُعيد تفسير مفهوم «السبب الوجيه» بشكلٍ فضفاض أو سياسي.

هل تنهار الثقة في الأسواق؟

قد تُفجّر أي محاولة لعزل باول أزمة ثقة حادة في الأسواق المالية العالمية، وتثير شكوكاً عميقة حول استقلالية السياسة النقدية الأميركية. يُدرك المستثمرون أن التسييس الزائد للسياسة النقدية عادةً ما يكون وصفة سريعة لارتفاع معدلات التضخم وانعدام اليقين، فالدروس القادمة من تركيا أو الأرجنتين لا تزال حيّة، حين تُملي السياسة على المصرف المركزي خطواته، تكون النتيجة عادةً موجات تضخمية وفقدان للعملة من قيمتها. يعكس منحنى العائد الأميركي التوجهات المستقبلية للفائدة والتضخم، ما يؤثر بشكل مباشر على تقييمات الأصول ونمو الثروات، خاصة في القطاعات المالية والتكنولوجية.في 16 أبريل نيسان 2025، أظهرت البيانات استمرار منحنى العائد في الانقلاب (Inverted Yield Curve)، إذ كانت العوائد على الأذون قصيرة الأجل (شهر إلى سنة) أعلى من العوائد على السندات متوسطة الأجل (سنتان إلى عشر سنوات)، ما يُشير إلى توقع الأسواق لتباطؤ اقتصادي أو تخفيضات محتملة في أسعار الفائدة.هذا الوضع يدفع المستثمرين الكبار وصناديق التحوّط إلى إعادة توزيع استثماراتهم، ما قد يؤدي إلى نمو ثروات جديدة أو انخفاضها في قطاعات معينة، ما ينعكس على خريطة أصحاب المليارات عالمياً.

الاحتياطي الفيدرالي ليس محصّناً بالكامل

صحيح أن البنك المركزي الأميركي يتمتّع بمستوى عالٍ من الاستقلالية مقارنة بنظرائه حول العالم، لكن هذه الاستقلالية لم تُكتب على حجر. فقد أظهرت الدراسات أنّ قوانين الحماية وحدها لا تكفي إن لم تكن مدعومة بإرادة سياسية جماعية تحترم حدود التدخّل.وحتى في الدول السلطوية، حين تُسنّ قوانين تحمي البنوك المركزية من التدخّل السياسي، تُسهم هذه التشريعات فعلياً في خفض معدلات التضخم وتعزيز الاستقرار المالي، ما يعني أن التحدّي الحقيقي ليس فقط في صلاحيات ترامب القانونية، بل في أثر قراراته على مصداقية ومتانة الاقتصاد الأميركي على المدى الطويل.

عقبة المصداقية وفخ المكاسب السريعة

من منظور اقتصادي، فإنّ ما يُغري ترامب وغيره من السياسيين بالتدخّل في عمل الفيدرالي هو القدرة السريعة للسياسة النقدية على إنعاش الاقتصاد، خاصة في مواسم الانتخابات أو وسط تراجع شعبي، فخفض أسعار الفائدة مثلاً يُنعش الأسواق ويُقلّل تكاليف الاقتراض، وهو ما قد يُترجم إلى مكاسب سياسية فورية.لكن هذه المكاسب قصيرة الأجل غالباً ما تأتي على حساب الاستقرار طويل الأمد، أثبتت التجارب أنّ استقلالية السياسة النقدية كانت العامل الأهم في الحفاظ على مستويات تضخم منخفضة وثابتة منذ تسعينيات القرن الماضي، خاصة في دول مثل السويد وسويسرا.

نهاية لِحِقبةٍ أم فصل جديد؟

إذا مضى ترامب في مخططه لعزل باول أو تقليص استقلال الفيدرالي، فذلك لا يُمثّل فقط خرقاً تقنياً للأعراف، بل تغييراً جوهرياً في العلاقة بين السياسة والنقد في أكبر اقتصاد في العالم، وسيكون العالم في تلك اللحظة أمام معادلة جديدة.. بنك مركزي أميركي أقرب للبيت الأبيض منه للأسواق.أما من سيخلف باول، فالنقاش لم يعد فقط حول الاسم (مثل كيفن وارش، أحد أبرز المرشحين)، بل حول المنهج، هل سيكون الشخص المقبل أداة سياسية، أم امتداداً لاستقلالية نقدية تحتاج إليها الأسواق أكثر من أي وقت مضى؟