من الملاذات الآمنة إلى تذبذبات أسعار النفط: الأسواق تعيد ترتيب أولوياتها في ظل المخاطر.

من الملاذات الآمنة إلى تذبذبات أسعار النفط: الأسواق تعيد ترتيب أولوياتها في ظل المخاطر.

في أسبوع طغت فيه أصوات الانفجارات على مؤشرات الاقتصاد، أعادت الأسواق العالمية ترتيب أوراقها وسط تصاعد حاد في التوترات الجيوسياسية بين إسرائيل وإيران، وتحوّلات مفصلية في السياسات النقدية والتجارية العالمية. وبينما تدفقت الاستثمارات نحو الذهب كملاذ آمن، قفزت أسعار النفط بنحو 25% خلال شهر، وتراجع الدولار أمام اليورو إلى أدنى مستوياته منذ عام 2021، ومع انخفاض مفاجئ في التضخم الأميركي، عاد الحديث بقوة عن خفض أسعار الفائدة، في وقت تشهد فيه الأسواق الناشئة تقلبات متباينة، وتُخيّم على المشهد العالمي مخاطر أمنية من كولومبيا إلى أوكرانيا. 
فما الذي تغيّر في مسار الاقتصاد العالمي؟ وأي السيناريوهات تترقّبها الأسواق في الأسابيع المقبلة؟

ختام أسبوعي مثير لاقتصاد العالم

اختُتم الأسبوع على وقع تصاعد التوترات الجيوسياسية، بعد أن شنت إسرائيل هجمات على إيران، ما حوّل الأنظار عن البيانات الاقتصادية وتطورات التجارة العالمية، وقد تعاملت الأسواق بحذر مع هذا التصعيد، ورغم ارتفاع أسعار النفط، فإن رد الفعل العام كان محدوداً نسبياً بالنظر إلى أهمية الحدث. في المقابل، قفز سعر الذهب بفعل الإقبال على الملاذات الآمنة، دون أن يصاحب ذلك انخفاض في عوائد سندات الخزانة الأميركية، كما هو معتاد، بل على العكس ارتفعت العوائد في تذكير للمستثمرين بالمخاطر الجيوسياسية التي تتهدد المشهد الاقتصادي العالمي.

في وقت سابق من الأسبوع توجهت الأنظار إلى الاتفاق الإطاري التجاري الذي جرى التوصل إليه بين مفاوضين أميركيين وصينيين في لندن، ورغم الترحيب الأولي بالاتفاق، خصوصاً ما يتعلق بتقييد الصين لصادرات المعادن الأرضية النادرة، فإن غياب التفاصيل واستمرار الرسوم الجمركية جعلا الاتفاق يبدو أشبه بـ«هدنة تكتيكية» أكثر منه تحوّلاً استراتيجياً في العلاقة الثنائية، وستعتمد الأهمية الاقتصادية للاتفاق على كيفية تنفيذه، وعلى مواقف الرئيسين دونالد ترامب وشي جين بينغ في الأسابيع المقبلة.

هبوط التضخم الأميركي يغيّر حسابات الفائدة

على صعيد الاقتصاد الأميركي، جاءت بيانات التضخم لشهر مايو أقل من المتوقع على مستوى المستهلكين والمنتجين، ما يشير إلى أن الرسوم الجمركية المرتفعة لم تُترجم بعد إلى ضغوط سعرية، هذا الواقع يطرح تساؤلات حول قوة الطلب وقدرة الشركات على تمرير التكاليف للمستهلك، ونتيجة لذلك أعادت الأسواق تسعير توقعاتها لأسعار الفائدة، حيث تعكس عقود العقود الآجلة الآن احتمال خفضين للفائدة بواقع 25 نقطة أساس في 2025، بعد أن كانت تتوقع أقل من خفض واحد قبل أسبوع فقط.كما أظهرت بيانات جامعة ميشيغان تحسناً في ثقة المستهلكين، لأول مرة منذ بداية العام، حيث ارتفع المؤشر 8.3 نقاط ليصل إلى 60.5 في يونيو، متجاوزاً التوقعات، مع تراجع المخاوف الاقتصادية وانخفاض التوقعات بشأن التضخم قصير الأجل.ورغم التصعيد العسكري في الشرق الأوسط، اختتمت أسواق الأسهم الأسبوع على تراجع، لكنها لا تزال قريبة من مستوياتها القياسية، بعد أن حققت مكاسب خلال الأسبوع مدعومة ببيانات اقتصادية إيجابية، وانخفضت عوائد سندات الخزانة الأميركية في معظم الآجال خلال الأسبوع، لكنها ارتدت صعوداً في نهايته لتستقر عند نحو 4.45% للسندات لأجل 10 سنوات و4.90% لأجل 30 سنة.

صعود الدولار

الدولار الأميركي، وبعد أن شهد ضعفاً ملحوظاً خلال الأسبوع، حقق تعافياً طفيفاً يوم الجمعة مع تصاعد التوترات العالمية، ومع ذلك يبقى ضعفه المتواصل موضع تساؤل حول صحة فرضية “ابتسامة الدولار” في البيئة الاقتصادية الحالية، وواصل مؤشر الدولار DXY التحرك قرب أدنى مستوياته في ثلاث سنوات عند 98 نقطة، بينما اخترق اليورو/ دولار حاجز 1.15 لأول مرة منذ عام 2021.

الذهب ينتعش

أما أسعار السلع فعكست بدورها التوتر الجيوسياسي وتغير التوقعات النقدية؛ إذ ارتفع الذهب فوق 3,400 دولار للأونصة، بينما قفزت أسعار النفط بنسبة تقارب 25% مقارنة بالشهر الماضي، لتُغلق عقود خام برنت وخام غرب تكساس عند نحو 75 و73 دولاراً للبرميل على التوالي.في المقابل، حظيت بعض البيانات الأميركية الأخرى باهتمام محدود من السوق، مثل ارتفاع المخزونات بالجملة بنسبة 0.2% على أساس شهري (مقابل توقعات الاستقرار)، وبلوغ طلبات إعانة البطالة 248,000 طلب –أي أعلى قليلاً من المتوقع ومتساوية مع الأسبوع السابق- أما عجز الموازنة الفيدرالية في مايو فقد بلغ 316 مليار دولار (مقابل 347 ملياراً في مايو الماضي)، ليرتفع العجز التراكمي منذ بداية العام المالي إلى 1.365 تريليون دولار، مقارنة بـ1.202 تريليون قبل عام، ما يبرز استمرار اتساع الفجوة المالية في البلاد.

أداء متفاوت بالأسواق الناشئة

دولياً، أظهرت بيانات الصين استمرار ضعف الطلب المحلي، حيث تراجع مؤشر أسعار المستهلك في مايو بنسبة 0.1% على أساس سنوي للشهر الرابع على التوالي، بينما انخفضت أسعار المنتجين بنسبة 3.3% على أساس سنوي، متجاوزة التوقعات، ما يعكس لجوء الشركات لخفض الأسعار لجذب المستهلكين المترددين، وسُجلت اتجاهات انكماشية مماثلة في كل من كولومبيا والبرازيل والهند، في حين فاجأت كل من المكسيك وأوكرانيا الأسواق بارتفاعات مفاجئة في معدلات التضخم، ما يؤكد تفاوت وتيرة التعافي الاقتصادي بين الأسواق الناشئة بعد الجائحة.وفي المملكة المتحدة، انكمش الاقتصاد بنسبة 0.3% في أبريل –وهو التراجع الشهري الأكبر منذ 2023– بفعل ضعف الإنتاج الصناعي والصادرات، إلى جانب زيادة في طلبات إعانة البطالة، أما في اليابان فقد تم تعديل الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول ليُسجل انكماشاً بنسبة 0.2% بدلاً من -0.7%، في حين سجلت السعودية نمواً سنوياً ثابتاً نسبياً عند 3.4% في الربع الأول، بدعم من القطاعات غير النفطية.سياسياً، شهدت عدة أسواق ناشئة تطورات بارزة أثرت على المشهد الكلي. ففي بولندا، نجا رئيس الوزراء دونالد توسك من تصويت بسحب الثقة بعد نكسة انتخابية، ما عزز في الوقت الحالي استمرارية أجندته المؤيدة للاتحاد الأوروبي، وفي باكستان تم الإعلان عن موازنة طموحة تتضمن خطة تقشف واسعة للعام 2025-2026، تشمل زيادة بنسبة 20% في الإنفاق العسكري مقابل خفض الإنفاق العام، بانتظار تقييم الأسواق لجدية التنفيذ، أما في الأرجنتين فقد أيدت المحكمة العليا حكماً بالإدانة في قضايا فساد ضد الرئيسة السابقة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، ما يمنعها من ممارسة السياسة مدى الحياة، وهي خطوة ستُقرأ على الأرجح كدعم لأجندة الإصلاح التي يقودها الرئيس خافيير ميلي.في كولومبيا، سلطت محاولة اغتيال المرشح الرئاسي ميغيل أوريبي وسلسلة تفجيرات في الجنوب الغربي الضوء مجدداً على التحديات الأمنية الداخلية، حيث نسبتها السلطات إلى أحد قادة المتمردين المنشقين عن “فارك”.وذلك بجانب تواصل التصعيد في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث شنّت موسكو أكبر هجوم جوي منذ بداية الحرب، وذلك بعد ضربات أوكرانية عميقة داخل الأراضي الروسية، ما يعيد التذكير بهشاشة التوازنات الجيوسياسية.أخيراً، لم يعد بمقدور الأسواق تجاهل حجم المخاطر الجيوسياسية التي باتت تلقي بثقلها على قرارات المستثمرين والبنوك المركزية على حد سواء. وبينما تراوح المؤشرات بين بيانات تضخم مشجعة في بعض الاقتصادات، وتوترات عسكرية قد تنفجر في لحظة، يبدو أن معادلة النمو والاستقرار باتت أكثر هشاشة من أي وقت مضى، والأسابيع المقبلة ستكون حاسمة، ليس فقط في اختبار قدرة الأسواق على امتصاص الصدمات، بل في تحديد ما إذا كانت السياسة والاقتصاد قادرين معاً على احتواء عاصفة تلوح في الأفق من الشرق الأوسط إلى آسيا وأميركا اللاتينية.